اليمين المتطرف في أوروبا يضاعف أزمات دول شمال أفريقيا
لم يكن صعود اليمين المتطرف بهذا الزخم الانتخابي أمرا مفاجئا، وسيطرته على قرابة الثلاثين في المئة من نسب البرلمان الأوروبي ليس سوى خطوة أولى ستنتهي في القريب بالسيطرة على البرلمانات والحكومات المحلية واختبار مدى قدرته على إنقاذ أوروبا من أزماتها، وفي نفس الوقت توجه رسائل سلبية للجاليات العربية والإسلامية ودولها وخاصة في شمال أفريقيا التي ستتضاعف أزماتها.
تعيش أوروبا ما يشبه “الربيع الأوروبي” قياسا بالربيع العربي ومغريات الديمقراطية الباذخة واستقلالية القرارات الوطنية التي انتهت إلى خيبة كبرى بمجرد اصطدام تلك الشعارات بالواقع العربي والدولي الصعب خصوصا أن “الربيع العربي” طال دولا فقيرة لا تستطيع أن تعيش دون دعم خارجي ولو ليوم واحد.
يقوم “الربيع الأوروبي” على شعارات شعبوية في استنساخ للشعار الذي صعد بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السلطة، وهو “أميركا أولا”. وفي الحالة الأوروبية، فكل يمين سيريد أن يحقق هذا الشعار خاصة في الدول ذات الاقتصاديات القوية مثل ألمانيا، في استعادة لبريكست البريطانيين، الذين كانوا يعتقدون أن أزمتهم تكمن في شراكة غير متكافئة مع دول واقتصاديات ضعيفة خاصة من أوروبا الشرقية. لكن النتيجة جاءت مخيبة.
◄ تأخير شمال أفريقيا في التوصل إلى اتفاقيات واضحة أو التهرب من بعض الآليات التنفيذية المتفق عليها قد يساعدان اليمين الجديد على التبرؤ مما تم الاتفاق عليه
سيعمل اليمين المتطرف في كل بلد من البلدان الوازنة على إنجاح بريكست خاص يقطع مع فكرة التضامن الأوروبي بميراثه التاريخي والثقافي والديني، خاصة أن هذا التضامن فشل في منافسة الولايات المتحدة أو الصين، ولم يحول أوروبا إلى اقتصاد عالمي أول. ولم تحمل لها الشراكة الاقتصادية والسوق الأوروبية المشتركة مزايا ذات قيمة، فالدول حين توقع اتفاقيات كبرى تقيمها بصفتها كدول منفردة وليس بصفتها الأوروبية الجماعية.
وقف الأوروبيون على حقيقة أن اتحادهم ضعيف ومحدود التأثير، وأن أهم ما فيه هو إدماج اقتصاديات ضعيفة والإنفاق عليها وعلى عمالتها ومنحها مزايا على حساب شراكات إقليمية كان يمكن الاستفادة منها دون إنفاق سخي، وهذا أحد أسباب العودة إلى القُطرية.
لا تمتلك المجموعات المهيمنة داخل اليمين المتطرف أفكارا أو برامج واضحة. مجرد أفكار عامة شبيهة بما عرضته فروع الإخوان المسلمين العرب التي حكمت في تونس ومصر أو التي سعت للفوز في انتخابات الأردن والسيطرة على اليمن وسوريا بالمناورة واللعب على تقاطعات إقليمية ودولية.
التحليلات الاستشرافية ترى أن اليمين الأوروبي سيعرف نفس المآل، عاجلا أو آجلا، وإن كان في مناخ مختلف ولديه أسباب موضوعية تدعمه وقد تجعل بقاءه في الواجهة أطول.
ومع البريكسات الخاصة والاعتماد على الذات والتخلص من التضامن كقيمة فضفاضة غير ذات جدوى، تحمل مجموعات اليمين فكرة كبرى أخرى ترى أن سبب الأزمات الاقتصادية والأمنية في بلدانها تكمن في الجاليات الأجنبية، وأن الحل في تقليص أعداد هذه الجاليات وقطع الطريق على أي أعداد وافدة جديدة.
الرفض يرتبط بشكل مباشر بالأزمة الاقتصادية، واعتبار أن سكان كل بلد أوروبي هم أولى بالوظائف والخدمات التي تقدمها بلدانهم للمهاجرين، ومثلما يعارضون التضامن الفضفاض مع الدول ذات الميراث المشترك، فهم يعارضون كذلك تحمل أعباء أزمات دول أخرى تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة لأسباب مختلفة حتى وإن كانت عائدة في جزء منها لاستعمار دولة مثل فرنسا.
المصلحة تقتضي أن تعيش كل دولة لنفسها، والميراث الحقوقي والإنساني القديم لم يعد له مكان، هكذا يفكر اليمين المتطرف في تعامله مع المهاجرين الذين يأتون بشكل فوضوي إلى أوروبا، ومع دول جنوب المتوسط سواء في شمال أفريقيا أو سوريا ولبنان وتركيا.
الأمر أبعد من النظر إليه على أنه تغيير دراماتيكي في أوروبا، هو تغيير منطقي ومتوقع، ولم يكن فقط وليد الأزمات الاقتصادية ومرحلة ما بعد كورونا. صعود هذا التيار يتغذى من أخطاء الجاليات، خاصة العربية الإسلامية، التي لم تعرف كيف تستفيد من حريات أوروبا لتحسين مستوى عيشها والاندماج في مجتمعات تحترم خصوصيات الوافدين ولا تتدخل لتغيرها كما يفعل العالم الإسلامي بكيانات داخله يفرض عليها أن تتخلى عن هويتها المذهبية أو أن تختفي.
ومن المهم التذكير بأن صعود اليمين المتطرف تغذى على التطرف الإسلامي، وهو في جزء منه رد فعل على ثقافة وافدة تريد أن تفرض نفسها وقيمها ونمطها المجتمعي بقوة السلاح، وبأشكال أكثر توحشا مثل قتل الأبرياء دهسا بشاحنة أو بتفجير قنبلة أو بالذبح.
لا شك أن أبناء الجالية العربية والإسلامية سيعرفون المزيد من التضييق، وسيصبح من الصعب عليهم الحصول على وظائف في مؤسسات الدولة، وخاصة مؤسسات السيادة. ستترك لهم الوظائف الهامشية والشاقة. ستكون الهوية هي اللغة واللون والتاريخ، وليس القيم التي تأسست عليها أوروبا الحديثة. وبالنتيجة ستتسع دائرة القطيعة خاصة أن الجالية لا بدائل لها.
لكن التشدد الأكبر سيكون مع المهاجرين الذين يغامرون بـ“الحرقة” عبر المتوسط أو الأطلسي، أو بحركة التفافية عبر جبال أوروبا الشرقية. هناك اتفاق على اتباع سياسة صارمة تجاه الهجرة والمهاجرين من وسط اليمين إلى أقصى اليمين.
سيكون الخيار الأمني هو اللغة الأساسية، وسيجد اليمين في اتفاق الهجرة الأوروبي الأخير أرضية لحركته التي تقوم على تجميع المهاجرين وفرزهم وتحويلهم إلى بلدان من خارج أوروبا في مخيمات للاجئين لا علاقة لها بالأهداف التي غامروا لأجلها.
وبالتوازي سيتم تفعيل الاتفاقيات مع بلدان شمال أفريقيا بشأن إعادة المهاجرين الذين ينجحون في تسوية إقامتهم. ليس بمقدور الأوروبيين أن يضخوا المزيد من المساعدات والهبات ويستثمروا لأجل إنقاذ الوافدين الذين فشلت بلدانهم في تحسين أوضاعهم المعيشية. اليمين يرفض استمرار إعاشة هؤلاء، وبدلا من ذلك سيعيدهم إلى بلدانهم مقابل صيغ وتفاهمات لن تكون في شكل سخي كما كان يحصل في السابق.
◄ “الربيع الأوروبي” يقوم على شعارات شعبوية في استنساخ للشعار الذي صعد بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى السلطة، وهو “أميركا أولا”
وتكمن هنا المشكلة، فدول شمال أفريقيا مثل تونس، ستجد نفسها في معادلة صعبة بصعود اليمين، فمن ناحية سيعيد لها أبناءها ممن فشلوا في تحصيل الإقامة، مهما كانت سنوات وجودهم هناك، وفي نسف الوقت سيضغط عليها من أجل أن تحرس حدودها وتمنع تسلل مهاجرين جدد من شمال أفريقيا أو من دول جنوب الصحراء، وقد يطبق اليمين، في حال فاز بالانتخابات وتحكّم في دول مثل إيطاليا وفرنسا، تلويحه بإعادة الوافدين من حيث أتوا، أي إلى دول جنوب المتوسط التي يصلون منها.
إن تأخير شمال أفريقيا في التوصل إلى اتفاقيات واضحة أو التهرب من بعض الآليات التنفيذية المتفق عليها قد يساعدان اليمين الجديد على التبرؤ مما تم الاتفاق عليه، حتى وإن كان هو نفسه من وقع عليها مثلما هو الحال مع رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، المنتشية بالشعبية الصاعدة وبأن خيار معاداة الأجانب طريق سالكة وسهلة إلى الحكم.
هل ستقبل ميلوني أو حليفتها في فرنسا مارين لوبان الاتفاقيات القديمة بعد أن صارتا في موقع قوة، وقد تتحالف أوروبا اليمينية لممارسة الضغوط على دول جنوب المتوسط التي تتحرك بشكل فردي، وكل منها يبحث عن اتفاقيات تجلب له مزايا سياسية أكثر منها دعما إستراتيجيا، كما أن هذه الدول عليها أن تتحرك لتوجيه جالياتها للتصويت في الانتخابات المحلية لعرقلة اليمين وامتصاص حماسه بدلا من الفرجة وتحمل النتائج لاحقا.
هناك مساع للتقليل من صعود اليمين ومحاولة “عقلنته” وأعتبر أنها ردود فعل داخلية على صراعات محلية وأن دول شمال أفريقيا لديها من الأوراق ما يجعلها قادرة على تلافي الضغوط من أي جهة. لكن الوضع مختلف وأوروبا لن تتحمل إلى ما لا نهاية الوضع على حدودها الجنوبية وليس من اليمين الشعبوي لتنفيذ الأفكار الراديكالية المعادية للآخر.