التحولات الرقمية أنتجت محتوى إعلاميا لا تهمه القيم

لا اختلاف على أن حضور التلفزيون تراجع بشكل كبير في حياة المجتمعات العربية، وليس المغرب بمعزل عن ذلك، حيث أثر انتشار العالم الرقمي وهيمنته في حضور التلفزيون، الذي تراجعت مواده مقابل الهوس الاستهلاكي المحموم على الفضاء الرقمي، في تحليل هذه القضية “العرب” كان لها حوار مع الباحثة والصحافية المغربية مونية المنصور.

تشهد التحولات الرقمية الهائلة والمتسارعة ظهور أنماط جديدة من الإنتاج والاستهلاك الإعلامي، مصحوبة ببنيات وأنساق واتجاهات قد تبدو غريبة وهجينة، ليس فقط في عالم التلفزيون بل أيضا في مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة، إذ أصبحت هذه الوسائل تصنف اليوم ضمن فئة الإعلام الكلاسيكي مقابل ما يعرف بالإعلام الجديد.

يعتبر من الضروري إعادة صياغة هذا الموضوع مع التذكير بدور وسائل الإعلام في التربية، وخاصة التربية على القيم، في ظل وجود فلتان قيمي يخضع للسوق والتحكم بوسائل الإعلام من قبل عدد المتابعين والتعليقات والنقرات، حيث يفرض على التلفزيون، على سبيل المثال، التفكير في تجديد أدواته وابتكار مضامين جديدة تعتمد على التقنيات الرقمية وإمكانياتها غير المحدودة، بهدف جذب المتلقي وتحقيق الفائدة والمتعة له.

يتناول كتاب “التلفزيون المغربي وصناعة القيم” للباحثة والصحافية مونية المنصور العلاقة بين التلفزيون والأسرة من حيث القيم، بناء على مرجعيات نظرية تتناول وظائف الأسرة وتسلط الضوء على التفاعل بين المشاهدين والمحتوى الإعلامي التلفزيوني، إذ يرتبط هذا النقاش بالتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية الكبيرة التي تؤثر ليس فقط على المغرب بل على العالم بأسره، في زمن تتصاعد فيه أزمة القيم.

العالم الرقمي والتلفزيون

 

عصرنا يعاني من أزمة قيم بتوصيف علماء الاجتماع والفلاسفة وقد زادت هذه الأزمة بفعل التحولات الاجتماعية والثقافية

تقول مونية المنصور ، “لا أخفيك سرا أن الدافع الذاتي كان حاضرا جدا في خوض غمار البحث في هذا الموضوع، وهو كوني صحافية مهنية لما يقارب عقدين من الزمن، بحكم اشتغالي في التلفزيون المغربي صحافية معدة ومقدمة مضامين إعلامية، وتحديدا داخل قناة عمومية موضوعاتية هي القناة الثقافية، فرأيت أن من مسؤوليتي كممارسة مهنية، هي البحث والدراسة في موضوع يسائل اليوم أكثر ممّا مضى وظائف الإعلام العمومي بصفة عامة ومن ضمنه أدوار التلفزيون ليس في المغرب فحسب، بل في العالم ككل، كما يسائل مسؤوليته الاجتماعية في الحرص على تعزيز القيم والنهوض بها، لاسيما أن العديد من الدراسات مازالت تتحدث حتى اليوم عن دور التلفزيون في إحداث التغيير كما يمكن أن يساهم في دعم وتكريس سلوكات وقيم واتجاهات جديدة”.

وتضيف “لقد أثرت التحولات الرقمية على مجموعة من مناحي الحياة في كل أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وقد طال هذا التأثير وسائل الإعلام وضمنها التلفزيون، إذ أفرزت لنا هذه التحولات الرقمية مضامين ومحتويات إعلامية بأنساق ومعايير جديدة لا تضع أمامها هاجس الخدمة العمومية ولا التنشئة الاجتماعية التي من المفروض أن تسم وسائل الإعلام بمختلف أشكالها”.

وتتابع الباحثة “صحيح أنها مضامين تنافس التلفزيون وهي موضوع هذه الدراسة لأنها مضامين سريعة ومثيرة في الغالب، ولا تخضع لرقابة الخط التحريري ولا تأخذ وقتا للتداول في هيئات التحرير وتجعل من المواطن العادي مصدرا للخبر بل سباقا إليه، وغالبا تنبني على التشويق والغرائبية لحصد عدد أكبر من النقرات والمتابعات ولو على حساب مصداقية الخبر”.

وترى المنصور أن هذه التحولات المتداخلة مست اليومي فينا كما مست الإنساني فينا، وغيرت بنيات ومؤسسات خلناها إلى وقت قريب ثابتة، فغيرت هيكلتها وبعثرت الأدوار فيها كالأسرة، هذا الوسيط الاجتماعي الأول والأهم الذي طالته مجموعة من التحولات على مستوى الشكل والجوهر، ذات الأمر بالنسبة إلى المؤسسة الإعلامية التي وجدت نفسها ملزمة بتغيير أنساقها لمواكبة التحولات الرقمية، وتعد إشكالية القيم في قلب هذه التحولات لأن القيم تطرأ عليها تغييرات وقد تموت إذا لم تحصن وتعزز داخل وسائط التنشئة الاجتماعية.

وتلفت إلى أن كتابها يعالج موضوع القيم في علاقته بالأسرة كأول حضن وفي علاقة بالإعلام كمعزز لمنظومة القيم. تفسر المنصور كيف يمكن للتلفزيون، بالرغم من تحولات العصر الرقمي، أن يظل ذا أثر إيجابي على تشكيل القيم في المجتمع، موضحة “هذا هو السؤال الإشكالي الذي يبدو رغم بساطته شائكا جدا، والذي انطلقت منه شخصيا في بناء أطروحاتي في هذا الكتاب، عن دور التلفزيون العمومي في ظل كل هذه التحديات المطروحة، في أن يظل ملتزما بمسؤوليته الاجتماعية في تقديم خدمة عمومية تنبني على تعزيز النسق القيمي للمجتمع عبر مختلف مضامينه الإعلامية، وسط بيئة رقمية مبنية على منطق استهلاكي لا يدخل في الحسبان أساسا القيم أو الأخلاق، ما يجعل من مهمة التلفزيون مهمة صعبة وشبه مستحيلة في تحقيق المنافسة للحفاظ على الجمهور وجذبه إليه، وعدم إغفال وظائفه التربوية والتثقيفية المؤطرة للمواطن”.

التلفزيون يجب أن يتفاعل مع التغيرات وبسرعة التكيف مع خوارزميات البيئة الرقمية ومع تيار الذكاء الاصطناعي

وهناك توازن ممكن بين متطلبات السوق الرقمية وبين محتوى التلفزيون الذي يعتمد على ترسيخ القيم والتربية، وفي اعتقاد مونية المنصور تكاد المعادلة تكون مختلة مرة أخرى بين هذين الأمرين، لأن السوق الرقمية مبنية على منطق آخر، يتسم أساسا بتلبية متطلبات المتصفح لها ولو كانت على حساب الحميمية أو الحياة الخاصة أو القيم، همها حصد أكبر عدد من اللايكات، في حين أن التلفزيون مبني أساسا على تقديم خدمة عمومية ذات مرجعية أساسية، وهي احترام أخلاقيات المهنة التي تمنع هذه السلوكات، علما أن نجاح التلفزيون هو رهين أيضا بعدد جمهوره وبمنطق تجاري مرتكز على الإعلانات التي تضمن حياة التلفزيون وديمومته، وبالرغم من ذلك فمن واجب التلفزيون، وربما اليوم أكثر مما مضى، القيام بدوره في تأطير القيم والاتجاهات والسلوكات التي باتت منفلتة في هذا العالم السائل كما سماه البولندي زيكمونت باومان.

وفي نقاشنا حول كيف يمكن للتلفزيون المغربي، وللتلفزيون بشكل عام، أن يتفاعل مع التغيرات السريعة في العصر الرقمي وفي نفس الوقت يبقى محافظا على دوره في تعزيز القيم وتربية الجمهور، تجيبنا الصحافية المغربية “ذاك هو مربط الفرس، فمن أجل أن يتفاعل التلفزيون مع كل هذه التغيرات، هو مطالب بسرعة التكيف مع خوارزميات البيئة الرقمية ومع تيار الذكاء الاصطناعي الجارف، بل يجب أن يحاول استثمار ما تتيحه هذه البيئة من إمكانيات تقنية هائلة على مستوى الصوت والصورة والنص، وأن يطور مضامينه الإعلامية لتواكب وتيرة الحياة الجديدة، حتى يقدر على المنافسة وحتى يستمر في أداء وظائفه المنوطة به”.

والأمر، في رأيها، لا يقتصر على تسطير إستراتيجيات هكذا، بل يجب تبني سياسة عمومية شاملة تعيد بناء أدوار وسائل الإعلام تجاه موضوع القيم، وتشرك جميع الفاعلين من الآباء والمربين إلى المهنيين وصناع المحتوى، وتأخذ بعين الاعتبار رهانات السياق الرقمي والتحولات المواكبة له.

أزمة القيم

العلاقة بين التلفزيون والأسرة من حيث القيم، بناء على مرجعيات نظرية تتناول وظائف الأسرة وتسلط الضوء على التفاعل بين المشاهدين والمحتوى الإعلامي التلفزيوني

الفلتان القيمي أو أزمة القيم ليس من مسؤولية الإعلام أو التلفزيون وحده، كما تقول المنصور، بل هو مسؤولية كل وسائط التنشئة الاجتماعية التي تبني القيم وترسخها، وما التلفزيون إلا إحدى هذه الوسائط التي يمكن لها أن تدافع عن منظومة قيم المجتمع عبر مضامين مختلفة، ومن بينها المضامين الدرامية، لقوة تأثيرها وقدرتها على جذب المشاهد.

هناك أمثلة عملية على كيفية تأثير بعض البرامج التلفزيونية على تشكيل وتعزيز القيم الإيجابية في المجتمع المغربي، تشير إليها المنصور مبينة “شخصيا، اشتغلت على تحليل مضمون برنامج ‘مداولة’ الذي يبث على القناة الأولى، وعملت على حلقات سنة كاملة من البث، وقد اخترت هذا النموذج بناء على معطيات ثلاثة”.

تقول “الأول هو أنه برنامج قديم جدا من حيث الحضور، والمعطى الثاني هو نسب المشاهدة التي يحصدها، والمعطى الثالث متعلق بالشكل الدرامي الذي يقدم به والذي يجعله قريبا من المشاهد وقد يجعله مؤثرا من خلال القيم التي يروجها داخل نماذج الأسر التي يقدمها والمشاكل التي تواجهها في علاقاتها البينية وفي علاقاتها مع المجتمع، والتي يفض نزاعها في النهاية داخل جلسة المحكمة، في إشارة إلى دور القانون في تعزيز القيم الأسرية والاجتماعية والدفاع عنها، وهو انطباع جيد يعطيه البرنامج للمشاهد حيث إن القانون يحمي قيم الأسرة المغربية من التفكك ويحافظ على مصالح أفرادها، علما أن القانون هو أيضا قيمة القيم.

ويجب أن يقتنع المسؤولون في القطاع، سواء كانوا سياسيين أو مهنيين، بأننا نعيش في عصر يعاني من أزمة في القيم، وهو توصيف يتفق عليه علماء الاجتماع والفلاسفة، وقد زادت هذه الأزمة بفعل التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى، لذا يتوجب على المجتمع اليوم إيجاد مداخل تربوية لمواجهة أي انفلات قيمي قد يؤثر على هويتنا الثقافية والاجتماعية، ويؤثر على تماسكنا الاجتماعي، فالقيم هي التي تعزز التماسك الأسري والاجتماعي حيث يجب على التلفزيون أن يبتكر مضامين جذابة ومشوقة للجمهور، وأن يكون في نفس الوقت حاملا لمضامين قادرة على تغيير الذهنيات والسلوكات وإنتاج القيم”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: