استياء من انحرافات “اللايف” في المغرب: وفاة مسنّة على المباشر.. واستهداف الإثارة بجثامين ضحايا الخمور المسمومة
تسببت وقائع نقل جثامين ضحايا الخمور المسمومة في منطقة “سيدي علال البحراوي” ، على المباشر وعبر مقاطع فيديو نشرت في هذه المنصة أو تلك، في تأجيج نقاش القيم والبحث عن “البوز” ورفع نسبة المشاهدات وعدد “اللايكات” والمزيد من الأرباح المالية في تغييب كامل لحرمة الأشخاص أحياء كانوا أو أموات، في إضافة جمرات للنقاش الساخن في المغرب حول تغييب الأخلاق والقيم في ممارسات عدد كبير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الذين يعتمدون على الفيديوهات لتحقيق تفاعل أكبر مع محتواهم الرقمي.
وعكس بعض المواقع الإخبارية التي كانت موضوعية ومهنية في توثيقها بالفيديوهات للحظة نقل جثامين ضحايا “ماحيا” (نوع من الخمور يصنع محليا ويدويا)، عمد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة “تيك توك”، إلى صناعة الإثارة ومحاولة الكسب من وراء تلك المشاهد التي انتهكت حرمة ميت قضى نحبه ولا تهم الطريقة أو الأسباب بقدر ما تهم صيغة التعامل مع الحدث، وفق ما قاله مدونون أغضبتهم تلك المحاولات اليائسة لاختراق سيارة نقل الأموات.
أما العناوين المثيرة، فحدث ولا حرج، الكثير من الإثارة التي اعتبرها مهنيون في مجال الصحافة “فجة” ولا علاقة لها بالموضوعية المهنية أو الأمانة في نقل الخبر للمتلقي، وفي ذلك تفرقت النوايا كما الأعمال، فكان فريق من “الإعلاميين” (وحرص صحافيون على وضع صفتهم بين قوسين)، تعمدوا خرق ميثاق المهنة الأخلاقي، فيما فريق آخر سار في درب الاحترام الكامل لضوابط المهنة ومراعاة لمشاعر الناس وحرمة الموتى وحزن ذويهم.
ومن نماذج العناوين التي رافقت ضحايا الخمور المسمومة من المشرحة إلى المقبرة، هناك من كتب “فيديو سيهز المغاربة”، وأضاف إليه عنوانا فرعيا للتوصيف “انهيار عويل هستيري لعائلات ضحايا الماحيا المسمومة”، ناهيك عن استعمال كلمات من قبيل عاجل ومباشر التي كانت شعار العديد من المواقع وهي تنقل مراسيم دفن الموتى الذين قضوا جراء تناولهم كحول مغشوشة.
متتبعون استغربوا استنكار الناس لنقل تلك الوقائع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه إقبالهم على مشاهداتها وبالتالي تشجيعها، وأكدوا أن الفرجة هي مثل الفضول لدى القطط تكاد تتسبب في مقتل بعضهم إن لم يكن جسديا فروحيا أو أخلاقيا.
نقاش الاخلاق فيما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة “تيك توك”، لا زال طريا وتتصاعد حدته مع كل واقعة تصدم المغاربة، وأحدثها قبل مدة قصيرة، نقل وفاة سيدة مسنة على المباشر لحظة بلحظة، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة والكل يشاهد ويعيش الصدمة و”يحوقل” مستنكرا الانتهاك الصارخ لحرمة سيدة في لحظاتها الأخيرة في دنيا الناس، لكن الكل ظل متشبثا بمشاهدة “اللايف” حتى نهايته.
الغضب كان عارما لدى المغاربة بسبب نقل وفاة المسنة التي كانت معروفة على “تيك توك”، وتدعى “مي السعدية”، وتصويرها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة صدم الجميع، واستنكر رواد مواقع التواصل، انتهاك حرمة سيدة في لحظاتها الأخيرة وحرمة ميت بعد ذلك.
تدوينات عديدة انتقدت بل هاجمت صاحبة “لايف الموت” كما لقبها بعضهم، في حين تدوينات كانت هادئة وانتقدت السلوك، وكتب أصحابها “حسبي الله ونعم الوكيل، حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته، ولا يجوز التعرض لجثة المسلم بأي نوع من أنواع الأذى، لما دلت عليه السنة من أن حرمة الميت كحرمة الحي.
وأوضحت التدوينة أن “نقل موت (مي السعدية) على المباشر كارثة عظمى، جريمة في حق روحها”، مؤكدة أن “المحتوى الرقمي أصبح في محنة المعنى لدى المستخدمين، الذين قد لا يدركون من التكنولوجيا سوى حصد المال بنسب المشاهدة، وإن كان ذلك على حساب إنسانية الإنسان والكرامة وحقوق الإنسان”.
وحسب صاحبة التدوينة، فإن “الأمر استفحل مع ظاهرة (البوز) التي تُربك التعاقدات الاجتماعية وأخلاقيات الاستخدام التكنولوجي ومنظومة القيم وتخترق مبادئ حقوق الإنسان”، ووجهت خطابها لكل ممارس لهذا السلوك “المشين”، بقولها “قبح الله سعيكم”.
وفي التدوينة نفسها، أشارت كاتبتها إلى أن نقل لحظات وفاة السيدة المسنة “لا يمكن السكوت على مثل هذه الأفعال”، وأضافت مستغربة “وبالموسيقى، عيب وعار”، وختمت بالدعاء للمتوفية “اللهم ارحمها واغفر لها انا لله وانا اليه راجعون”.
بعض المواقع من جهتها زادت من إشعال فتيل الإثارة ونشر الكثير من الفيديوهات حول “حالة تأثر” من نقلت وفاة السيدة ووصفها بأنها “أشهر مسنة في المغرب”، وفيديوهات أخرى خصصت للبكاء والعويل واللطم، فيما وثقت مقاطع أخرى “آخر ظهور لها” بعد تصوير الوفاة على المباشر.
ووصف الإعلامي المختار لغزيوي، مدير صحيفة “الأحداث المغربية”، ما وقع بـ”الأمر المخزي والمخجل والحيواني وغير الإنساني”، واعتبر أنه “لا يدين فقط من كانت تقتات به، بل يدين إخوتي المغاربة الذين كانوا يتفرجون عليها، ويهدونها قلوبهم واللايكات، ثم بقية التفاهات”.
وكتب في عموده أن “سيدة في أرذل العمر تقع ضحية مواطنة من مواطني اليوتيوب، فتستغلها أبشع استغلال وتمضي سنوات وهي تصورها تتلفظ بألفاظ غير لائقة، حولت حياة تلك اليوتيوبورة تماما، وانتقلت بها من شكل إلى شكل آخر”. وأضاف “ولأن الطمع لا حدود له، فإن هذه اليوتوبورة قررت أن (تعصر) المرأة المسنة المسكينة حتى الرمق الأخير فعلا وليس مجازا ، حيث صورت لحظات احتضارها على امتداد أربعة أيام”.
الأمر ليس بالجديد على “تيك توك” المغربي، بل حتى على بعض “المواقع الإخبارية” التي تتخصص في الإثارة “الفجة”، بل سبق لبعضها أن كتبت عنوانا على مقطع فيديو إبان وفاة فنانة مغربية شهيرة ومن جيل الرواد، يقول “لحظة غسل جثمان…”، كما انتقل فيديو آخر إلى محاورة من قامت بتغسيلها.
واقعة أخرى قام خلالها “بطلها” وهو أب بنقل مراسيم دفن “رضيعه”، مع مشاهد وضع الجثمان الصغير في القبر وكل التفاصيل المتعلقة بذلك، وتوج “اللايف” الخاص والمؤلم جدا بلحظات بكائه وإلقائه لخطاب على “المتتبعين” لحسابه، حاول من خلاله إبراز حزنه وآلمه لفقدانه.
المحتوى السيء تجاوز الفيديوهات، إلى مقاطع تصنف في خانة “الغناء” لشباب أرادوا ركوب الموجة والحصول على الشهرة بسرعة، وكان الأمن والقضاء بالمرصاد بسبب ما تضمنته أغانيهم من إساءة و إجرام لفظي، مثل أغنية حرضت على اغتصاب القاصرات وانتهت بصاحبها في السجن.
البرلمان كان قد دخل على خط “المحتوى المسيء” للمغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة “تيك توك”، حين طرحت نائبة برلمانية عن فريق حزب رئيس الحكومة “التجمع الوطني للأحرار”، سؤالا على وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، بخصوص الظواهر المسيئة للمجتمع المغربي، والمتمثلة في منشورات كـ “اللايفات” التي يهدف أصحابها من ورائها الحصول على الربح المالي السريع.
سؤال “المحتوى المسيء” للمغاربة، شهدته إحدى جلسات الأسئلة الشفوية بمجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي)، وجواب وزير العدل كان واضحا، حين تحدث عن أسباب استحالة إغلاق “فيسبوك” و”تيك توك”، لكن في المقابل، كان قد طرح مستجدات في القانون الجنائي التي تجرم العديد من الممارسات المنتشرة، في حين يتكفل حاليا الأمن المغربي بملاحقة الجريمة الإلكترونية وأي محتوى يشتم منه رائحة الإجرام تتم ملاحقة صاحبه والقضاء كفيل به.