هذا ما أحاول الدفاع عنه كفكرة هذا الأسبوع، رغم إننا ما زلنا في مرحلة ما قبل الحملة الانتخابية لرئاسيات 7 سبتمبر 2004. التي عادة ما يرتفع فيها الحس الجهوي للجزائريين، وهم «يختارون» رئيسهم، كما حصل أكثر من مرة في التاريخ السياسي للبلد. عبّرت عنه انتخابات – ربيع 2004 – أحسن تعبير، نافس فيها علي بن فليس الشاوي، الرئيس بوتفليقة التلمساني، والتي وصل فيها الاستقطاب الجهوي بين الشرق والغرب إلى مستويات خطيرة تخوف منه الكثير، هدد مؤسسات الدولة والنظام السياسي، كما حصل مع حزب جبهة التحرير، الذي انقسم على نفسه، عكسته من جهة أخرى نتائج الانتخابات على مستوى الولايات والجهات في أكثر من استحقاق انتخابي، مهما كان موقفنا من صدقية المعطيات الرسمية المعلنة، التي لا يمكنها إلا أن تجاري هذه المتغيرات السوسيولوجية المتعلقة بالجهة، ولا تعاكسها حتى تحافظ على ما تبقى لها من صدقية.
عكس الانتخابات المحلية التي تبرز إلى السطح تشققات اجتماعية أكثر محلية، تتعلق بما هو مرتبط بما قبل الجهة، كما يفهمها الجزائريون، تعتمد على انتماءات اجتماعية ما قبل وطنية أصغر من الجهة بمفهومها الواسع، كالعرش والقبيلة التي تحفزها المنافسة الانتخابية عند الجزائريين، الذين يفضلون التعامل مع جهويات كبيرة ما زالت فاعلة، تُقسم البلد عموديا إلى شرق، غرب ووسط.
الدخول في تفاصيل هذا المشهد الجهوي التاريخي في الجزائر الذي يخبرنا أننا أمام جهويات معارضة وأخرى في السلطة، ميّزت على الدوام التاريخ السياسي للبلد، كما كان الحال مع جهوية الشرق، التي سادت لسنوات طويلة، بداية من مرحلة ما قبل الاستقلال. مقابل جهوية الغرب التي عادت بقوة مع بوتفليقة، لنكون أمام جهوية قوية وحاضرة، عبّرت تاريخيا عن نفسها بأكثر من شكل في المعارضة، ونحن نتكلم عن منطقة القبائل، التي عرفت كيف تحافظ على طابع جهويتها المعارض، الذي عبرت عنه بأشكال تاريخية مختلفة، بما فيها نوع من العنف السياسي، كما حصل في بداية الاستقلال، وعبر حركات اجتماعية وسياسية أكثر سلمية استعملت فيه الحزب والجمعية والمسيرة والإضراب وغيرها من أشكال الاحتجاج المعروفة. شعور جهوي له مؤشرات كثيرة، ونحن على أبواب انتخابات رئاسية باهتة ومغلقة سياسيا، قد يعرف فتورا أكبر هذه المرة لأسباب متعلقة بأسباب مرتبطة بالمدى الطويل، وبالحدث نفسه بما فيها العوامل المتعلقة بالأفراد كعوامل تفسير. أسباب المدى البعيد التي تخبرنا أن دخول الجزائريين إلى المدينة بشكل مكثف واختلاطهم ببعضهم بعضا داخل العديد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كان على رأس أسباب هذا الفتور للعامل الجهوي، كان ولا يزال جزئيا على الأقل يملك في المقابل قدرة كبيرة على اختراق المؤسسات والقناعات السياسية والأيديولوجية للأفراد والجماعات، كما تبينه الحياة اليومية، التي ينطلق فيها الجزائري بهذا السؤال المفتاحي – من أي جهة أنت؟ عند أول لقاء مع أي شخص للتأكد من المعطيات التي يكون قد حصل عليها، بعد تحديد لهجة المتحدث، رغم النجاحات التي حققتها الجزائر في بناء مؤسسات وطنية على غرار الإدارة والجيش، والكثير من المؤسسات الأخرى التي عبرت عن حضورها وانغراسها الوطني عندما تعرضت إلى هزات قوية، كما حصل في التسعينيات. فرضت حضورها واستمراريتها، رغم الأهوال التي عاشتها الجزائر.
عوامل أخرى مرتبطة بالمتنافس الرئيسي في هذه الانتخابات، قد تفسر هي الأخرى ضعف البعد الجهوي الملاحظ هذه المرة، رغم أنه لم يترشح رسميا لغاية اليوم، كما جرت العادة عند الرئيس الجزائري، ويتعلق الأمر بالرئيس تبون ابن منطقة الجنوب الغربي، المعروفة بحسها الجهوي الضعيف، القريب من المنطق الجهوي السائد في الجنوب الجزائري، الذي يركز- على العكس -على قراءة أفقية للجزائر – شمال ـ هضاب عليا – جنوب ـ تخفف بشكل كبير من الاستقطاب الجهوي، الذي عادة ما تولده القراءة العمودية – شرق – غرب – وسط، وهي تمنح قيمة أكبر للاعتبارات السوسيو-إيكولوجية المرتبطة بالصحراء والهضاب العليا بكل ما تنتجه من قراءة أوسع للجهة في هذه المنطقة الحدودية الشاسعة من منطقة المشرية التابعة لولاية النعامة، التي غادرتها العائلة للإقامة في مدينة بلعباس الأكثر انفتاحا، بعد ولادة الطفل عبد المجيد -1945- ما لم يساعده على تعلم الأمازيغية، في وقت حافظ فيه على لغة متوسطة ابتعدت عن أي تأثير جهوي قوي، كما ساد عند أبناء البيروقراطية الجزائرية وهم ينحتون لغة خاصة بهم.
الفكرة التي ندافع عنها التي ستزداد وضوحا، إذا اضفنا إلى ذلك بعض الاعتبارات المتعلقة بمسار الرجل السياسي، المهني والوسط العائلي الذي حصل فيه على تنشئته الاجتماعية والسياسية الأولى، عرفت ببعدها الإصلاحي الديني الذي عبرت عنه قناعات الوالد، القريب من جمعية العلماء في هذه المنطقة التي حافظت على قربها من التيارات الإصلاحية الدينية وتنوعها الثقافي ـ اللغوي الذي ارتبط بإحدى تفريعات اللسان الأمازيغي المعروفة عند أبناء منطقة بوسمغون، من دون الاهتمام بالبعد الصوفي لدى الرجل الذي تدعّم لديه جراء تجربته المهنية في ولاية أدرار، وما قيل عن ارتباطاته العائلية هناك. ناهيك عن مكان تحصيله العلمي الجامعي – المدرسة الوطنية للإدارة – التي عرفت بطابعها الوطني، التي التحق بها بعد مروره على تكوين مدرسي في تلمسان ( ثانوية بن زرجب). الانطلاق في الحياة المهنية للرئيس تبون بداية من سنة 1969ستكون محطة أخرى سمحت له، على غرار أبناء هذا المسار المهني، بالتعرف على الكثير من جهات الوطن هو الذي عمل في أكثر من ولاية في أكثر من موقع كأمين عام ووال – بشار – الجلفة – تيزي وز – تيارت- باتنة – للالتحاق بعد ذلك بالحكومة -1991-في قطاعات متنوعة – كالإعلام، السكن البناء لاحقا، كقطاع عرف به في مساره المهني. رغم أن هذا المسار المهني على مستوى الإدارة المحلية، لم يساعد الوالي الجزائري على التخلص من النزعة البيروقراطية، التي ارتبطت بقوة بهذا المنصب في غياب المساءلة ومراكز السلطة المضادة، زادت في منسوب تكلس مؤسسات الدولة منذ مرحلة الأحادية، لم تساعد على الإفلات منها التجربة الحزبية – في ظل الأحادية ـ التي كانت تفرض على رجال النظام كتأدية واجب أكثر منها شيئا آخر. لتتعمق مع الوقت عزلة أصحاب هذه المناصب بعد ظهور الكثير من القوى الاجتماعية المرتبطة بالمصالح – أعيان المنطقة كما شاعت تسميتهم – الذين تكاثروا في هذا النظام الريعي المتعود على صرف المال العام، بكم الفساد الذي يعرفه، زادت في بناء الحواجز بين المسؤولين الذين تزداد عزلتهم، كلما زاد عدد المحيطين بهم من أبناء جهتهم وغيرها من الجهات، لما للمصالح من قوة إقناع وتأثير، وهي تلتف على المعطى الجهوي لتجاوزه وإعادة إنتاجه في الوقت نفسه.