يتطلع المغرب إلى إرساء أرضية جديدة للحوار الاجتماعي تستجيب للتحديات المشتركة، في ظل احتدام مفاوضات الزيادة في الأجور التي انطلقت منذ فترة.
وتتبع الرباط مقاربة تشاركية لتحديد الأولويات والتحديات بما يخدم مصلحة الحكومة والمواطنين، لذلك مثلت فعاليات معرض الكتاب فرصة للاستئناس بآراء الخبراء في المجالين الاجتماعي والاقتصادي بمشاركة أعضاء الحكومة.
وخلال آخر ندوة بمعرض الكتاب الذي اختتمت فعالياته الأحد، اتفق كل من المفكر المغربي عبدالله ساعف، والأنثروبولوجي محمد الطوزي، على تجاوز الأرضية الحالية للحوار الاجتماعي المرتبطة بحقوق العمال أو الحديث عن الأجور وإعادة النظر فيها، إلى البحث في إشكالية الحد من اللامساواة، والعدالة الاجتماعية والحد من الفوراق الاجتماعية، وأن ربط الحوار الاجتماعي مع الدولة الاجتماعية يفرض ضرورة توسيع الإطار ليشمل الفاعلين الجدد المنظمين، وليس النقابات فقط.
واعتبر ساعف أن الأسئلة الكلاسيكية المطروحة والتي يتجدد الحوار حولها سنويا، يجب أن يتجاوزها الحوار الاجتماعي إلى أسئلة أكثر شمولية تمس المجتمع، وتبحث عن تأطير الممارسات الاجتماعية التي فرضت نفسها اليوم، موضحا أن الحوار الاجتماعي ينبغي أن يمس قضايا تحديث الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، والنموذج الاجتماعي المغربي الذي يمكن بناؤه، والذي توجد عناصره في الواقع ولكنه ما زال يحتاج إلى المزيد.
نجاح الحوار الاجتماعي يتطلب أن يكون الشركاء الاجتماعيون فاعلين ولديهم القدرة على احترام الالتزامات
وأشار إلى نقطة أخرى متعلقة بتغير الفاعلين المعنيين بالحوار الاجتماعي، ذلك أن الفاعلين، الذين يضمون العمال وتمثيلياتهم بالتفاوتات القائمة بينها والمقاولات وتمثيلياتها والحكومة، يجب أن ينتبهوا إلى تصاعد الحركات الاجتماعية والتفكير في كيفية إدماج الفاعلين الجدد.
وتابع ساعف حديثه بأن الحقل الاجتماعي أصبحت لديه إشكاليات جديدة لم نألفها من قبل، موضحا أن الحوار الاجتماعي لا يمكن أن لا يأخذ بعين الاعتبار هؤلاء الوافدين الجدد الذين يفرضون بالساحة الاجتماعية.
وفي تدخله، أشار محمد الطوزي، الأستاذ الباحث في العلوم السياسية والاجتماعية، إلى أنه لا يجب طرح أرضية للديمقراطية التشاركية، من خلال الحوار الاجتماعي كما عرّفته المنظمة الدولية للشغل بين ثلاثة شركاء؛ أرباب العمل، العمال والنقابات، والدولة، فقط، ولكن عبر توسيع المجتمع المدني الذي يضم الفاعلين الجديد، والفاعلين الذين يحضرون السياسات العمومية ككل.
وأضاف الطوزي “يجب التفكير والحوار حول المفاهيم المؤطرة للحوار، ومنها الشرعية السياسية والشرعية النقابية”، مفيدا في هذا الإطار بأنه لا يمكن تغييب الدور المحوري للبرلمان لأن هناك حيث يوجد الحوار، داعيا إلى الأخذ بعين الاعتبار دور المعارضة في تطور الحوار السياسي أولا ثم الحوار الاجتماعي.
ودعا الباحث إلى التفكير في شرعية المصالح الفئوية والمصالح الجماعية الخاصة وقضية الصالح العام، لأن هذا الأخير ينبثق من اختيارات سياسية واضحة، مما يطرح قدرة الفاعلين على تدبير الضغوطات.
فعاليات معرض الكتاب مثلت فرصة للاستئناس بآراء الخبراء في المجالين الاجتماعي والاقتصادي بمشاركة أعضاء الحكومة
ويتفق الباحثون على أنه في ظل أزمة عالمية للتمثيلية السياسية والوساطة، تتطلب أن يكون الشركاء الاجتماعيين الذين يتم الحديث إليهم أقوياء ولديهم إمكانية لاحترام الالتزامات لأنه لا حوار إذا لم يكن ذلك، وأن تجربة هذه السنة بالمغرب، خاصة في التعليم، تطرح عدة نقاط في ما يخص التمثيلية والالتزام بالتعهدات، وأن الأمر برمته يتطلب نقاشا سياسيا واضحا ومسؤولا أكثر منه حوارا اجتماعيا دوريا ويرتبط باحتفالية عيد العمال في شهر مايو من كل سنة.
وفي ما يتعلق بالجانب الحكومي، أورد وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات يونس السكوري في مداخلته أن في التجربة المغربية “حاولنا العمل على مأسسة الحوار الاجتماعي، بمعنى وجود انتظام ودورية غير شكلية، وأن تحدي الثقة فرض ضخ مخرجات دقيقة ومكلفة ضمن الحوار الاجتماعي تُخاطب من سيستفيدون في آخر المطاف، وإلا سيظل الحوار بناء مؤسساتيا بيننا ‘لا يسمن ولا يُغني من جو’”.
واستحضر الوزير المغربي، في هذا السياق ما تم ضخه خلال الحوارات القطاعية من ميزانيات مهمة، لافتا إلى أن المغرب وصل إلى الإجماع السياسي على النظام والدستور والتوجه العام للبلاد، وجميع القوى مجمعة على المغرب كما نراه، ما يجعل العقبات المطروحة عند مجموعة من البلدان غير مطروحة عندنا.
وأمام الوضعية التي يوجد بها المغرب والتحديات التي أمامه، يضيف السكوري “تجعلنا بحاجة إلى إرساء طبقة جديدة داخل البناء المؤسساتي، وتتعلق بالتوافق الديمقراطي، والذي يعني أن جانبا من التنافس الممكن يمكن أن نتذاكر حوله أو نضعه جانبا بشكل جزئي في مرحلة تاريخية لأن التحديات التي أمامنا تتطلب أن نُقدم للمجتمع الذي انتظر طويلا”.
وعلى المستوى الأكاديمي تساءل المفكر المغربي ساعف “هل يعني الحوار الاجتماعي الوصول إلى مجتمع يتحرك بتوافقات اجتماعية؟ وهل يتنافى مع التوترات الاجتماعية؟”، مفيدا بأن أساتذته في قانون الشغل كانوا يقولون إن الإضراب ليس سيئا إذا كانت غايته توسيع القدرة التفاوضية، لأنه يدل على حيوية المجتمع، ولا أظن أن الهدف من الحوار الاجتماعي الوصول إلى الإجماع، لأن التوتر جزء من الحوار، وليس شرطا أن نكون جميعا متوافقين، لأن هذا الأمر يعبر عن حيوية المجتمع وتنافسيته، لأن تعبيرات المجتمع المختلفة يمكن أن تغني مشروعنا المشترك.
الأسئلة الكلاسيكية المطروحة والتي يتجدد الحوار حولها سنويا، يجب أن يتجاوزها الحوار الاجتماعي إلى أسئلة أكثر شمولية تمس المجتمع
وأثار شروط الحوار الاجتماعي، ذلك أنه ليس إخبارا أو استشارة، بل هو تبادل للرأي على أسس تشخيصات متفق عليها وعلى أهداف مشتركة، مفيدا بأن الشرط الأول يهم التمثيلية الحقيقية، مثيرا المقاييس المعتمدة بالنسبة للفاعلين الجدد في حال دخولهم الجيل المقبل من الحوارات الاجتماعية.
وتابع أن الشرط الثاني متعلق بالميكانيزمات الفعالة لتبادل الآراء والتنوير المتبادل حول المشاريع التي يحملها الفاعلون، مضيفا أن الشرط الثالث متعلق بالسير العادي والمنتظم للحوار، مشيرا إلى الاختلالات خلال العشر سنوات الماضية.
ومن وجهة نظر حكومية، أشار الوزير السكوري في تدخله إلى أن الوساطة السياسية ضرورية لتذليل الصعاب والمرور من التوافق السياسي إلى التوافق الديمقراطي، مفيدا بأن آلية الانتقال تجعلنا أمام مآزق أولها مرتبط بجودة التمثيلية، التي تسقط ببعض البلدان أمام إشكاليات مجتمعية، موضحا أن الديمقراطي الحقيقي لا يجب أن يكتفي بميكانيزمات التمثيلية ولكن يجب عليه الإنصات للتعبيرات المجتمعية والتي لا تدخل بالضرورة ضمن ميكانيزمات الديمقراطية الصورية، مبرزا أن المجتمع به ديناميتان، أولاهما دينامية “مجتمع النظام” التي تشتغل بها المؤسسات، ثم دينامية “مجتمع التعادلية” الذي يطمح إلى المساواة، مفيدا بأن الحوار الاجتماعي يأتي كآلية لامتصاص نقص الفعالية والتغطية على إشكاليات التمثيلية للبناء السياسي لما قبل الحركات الاحتجاجية والتعبيرات المجتمعية.
وذهب الطوزي إلى أن ما يجعل الحوار الاجتماعي ناجحا هو الجانب الأخلاقي، وقضية الثقة ومنسوب الثقة بين الفاعلين واحترام الالتزامات والوضوح في المواقف، وهذا يدخل في إطار الثقافة السياسية، مركزا على أن هذا الجانب الأخلاقي جد مهم ليس للفاعلين المباشرين في الحوار فقط بل حتى المحيط، خصوصا الصحافة ووسائل الاتصال، مبرزا أن النموذج التنموي الجديد كان مشروطا بميثاق الثقة وميثاق التنمية الاجتماعية، والآن أصبح معلقا، مفيدا بأنه كان سيرسم المحطة التي تجعل الفاعلين ملتزمين على المستوى السياسي والأخلاقي وتطوير سبل الحوار.
وفي مناظرة هي الأولى في تاريخ المغرب جمعت بين النقابات والباطرونا بإشراف منظمة العمل الدولي، قبل أيام، أبرز المدير العام لمنظمة العمل الدولية جيلبر فوسون هونغبو، في اللقاء، أن “الحوار الاجتماعي ينبغي أن يكون في صميم أي إستراتيجية للتنمية الاقتصادية”، منوها بـ”التوافق” الذي طبع الحوار ثلاثي الأطراف بالمغرب (الحكومة وأرباب الشركات والنقابات) الذي تم وفق “مقاربة بناءة” تحقق الحماية الاجتماعية وإنعاش الشغل.