الانتخابات الأوروبية: بين استيعاب الأطراف وامتصاصها
من المعروف أن الطيف السياسي في البرلمان الأوروبي يتنقل بين يمين ويسار وكأن القلب النابض للناخب لا يمكن إلا أن يصنعه التأرجح». هكذا تحدث صحافي تلفزيوني سويسري بارز محللا الواقع الأوروبي وقد طبقه على الواقع الفرنسي الذي عودنا طيفه السياسي على ذات التأرجح على مر التاريخ.
لكن ملاحظة الصحافي أعقبها سؤال وجهه لضيفه: «هل تعتقد أننا سنشهد هذه المرة تغيرا جذريا في تشكيلة المشهد السياسي البرلماني الأوروبي على ضوء صعود اليمين المتطرف في بلدان أوروبية عديدة»؟
ولأن الضيف منتم إلى اليمين الفرنسي المتطرف، فقد أجاب بـ « نعم» واضحة منتظرة متوقعة وقد يقول قائل إن الأمر لا يعدو كونه بلاغيا لا يتوقع من مسؤول سياسي في اليمين الأقصى أن يتحدث بطريقة مختلفة. لكننا ننسى هنا أننا دخلنا أوروبيا، شئنا أم أبينا، زمنا سياسيا جديدا أرسى ما يمكننا أن نسيمه بـ «زمن الأطراف والتطرف. «
أجل، فمن غير السليم الاستمرار في مقاربة تنامي العمليات الإرهابية التي شهدتها أوروبا في الآونة الأخيرة بمجرد تفعيل الشق الديني من التحليل، فالتطرف الإرهابي، حتى وإن لم يجد له منبتا فقط ضمن مناخ اجتماعي وسياسي فاقد للهيكلة، غير أنه وجده فيه أصلا.
مناخ اجتماعي وسياسي فاقد للهيكلة. هذه هي الصورة التي تظهر عليها الآن الطبقة السياسية الأوروبية وخاصة منها الفرنسية. فلو تناولنا الحالة الفرنسية عن قرب، لوجدنا فعلا أن المخاض الفكري التوليدي الذي صاغ المشروعين السياسيين يمين – ليبيرالي / يسار ـ اشتراكي، لم يعد ينتج أفكارا قابلة للتطوير، أساسا لأن هذه الأفكار لم تطبق ولم تتطور حين كان الوقت لا زال متاحا لها.
تقليديا، يدعو اليسار إلى تكريس اندماج الهجرة والمهاجرين في بوتقة النموذج الجمهوري الفرنسي على أساس الانتاج الاقتصادي. لكن عمليا، تزايدت التجمعات السكنية على أطراف المدن الكبرى فتكرست أسباب التهميش والإقصاء لتتقوى نعرة الإقصاء المجتمعي.
وتقليديا، يدعو اليمين إلى تشجيع المبادرة الفردية عبر إنشاء الشركات المتوسطة والصغرى لتحقيق توزيع عادل للأرباح على العاملين والمساهمين، لكن عمليا، توسعت الفجوة بين الصفين لفائدة المساهمين بشكل لم يترك مجالاً لتحقيق الإنصاف وبالتالي العدالة.
لا ينبغي لجاذبية الهوية الوطنية أن تعمل كستار جمعي يتحول مبدأ الدمج خلفه إلى جسد بلا روح يتعايش مع مذهب الفصل المجتمعي الذي لم يبرز الآن إلا كنتيجة لإخفاق الهوية الوطنية
هنا، اندثر مبدأ توزيع الثروات بشكل أنهى آمال الشعوب في تحقيق غد أفضل. فإخفاق مشروع ليبرالي محرف عن مساره يستغل رأس المال لصالح حفنة من المنتفعين، وفشل الاقتصاد المسير كما تصوره الاشتراكيون في تأمين العيش الكريم، نفراها عن مواصلة التصديق على قابلية الثنائية التقليدية يسار – يمين في تحقيق برامج ذات محتوى متجدد ومجدد يتناغم مع شعار « تغيير الحياة» كما تصوره ليونيل جوسبان في حملته مثلا.
عندها، برزت عبارة «فلنجرب من لم نجربهم أبدا». وهي عبارة نسمعها منذ زمان في فرنسا. لكن وسائل الإعلام تسكت عنها. نسمعها في المقاهي، نسمعها في الاجتماعات العائلية، نسمعها في السهرات، وتوحد فيما بينهم أفراد طبقة يمكن نعتها بـ «شعبية» لا تنتمي بالضرورة – بل عادة لا تنتمي أصلا – إلى وسط معاد للهجرة والأجانب، «ولكنها، في المقابل، تنتمي إلى وسط «المغلوبين على أمرهم».
ونعلم كيف أن من تضيق بهم السبل يشكلون «لقمة سائغة» لمن يحركون الفزاعات ونهجهم في ذلك شرذمة الهوية الوطنية بالاستناد إلى مغالطات معروفة قائمة على الخلط بين التنوع الحضاري والتطرف والإرهاب وبين التراجع الاقتصادي واستيلاء المهاجرين على مناصب الشغل.
كان مشروع ماكرون الانتخابي مشروعا استيعابيا فعلا يسعى بواسطته إلى «استيعاب الأطراف» عبر تحريك ورقة التغيير الأساسية التي يملكها، ورقة الشباب، لكن شعبية هذا المشروع تدنت خاصة لأن الطبقات «الفقيرة» أو ما دون «الطبقات الوسطى» رأت نفسها مهمشة مستبعدة بل ضحية «أمركة» أسلوب تسيير دولة قائم على تداولات « دنيا المال والأعمال». (تجلى ذلك مثلا عند الاعتماد على شركة «ماك إنسي» الاستشارية في تدبير أزمة كورونا).
حينها، لا نستغرب كثيرا عندما نلاحظ عودة «الأطراف» إلى واجهة المعترك السياسي الفرنسي شأنه شأن الأوروبي، لتطل إشكالية «استيعاب الأطراف» من جديد. وفي فرنسا، سيتعين على مترشحة الحزب الحاكم في الانتخابات الأوروبية فاليري هايي، لكن أيضا وأساسا، على رئيس الوزراء غابرييل أتال استعدادا للرئاسيات القادمة، تحقيق هذه المهمة التي تمر بالضرورة عبر ممرين : ممر الإغراء والإبداع الذي لا محيص عنه في السياسة، لكن أيضا قدرة نافذة على استيعاب طبقة المهمشين القابلة للاشتعال في أي لحظة. و لم أجد هنا خطة طريق أفضل من تلك الواردة في هذه الجملة التي عثرت عليها في معجم «المعاني» الإلكتروني و أنا أبحث عن ترجمة مناسبة لكلمة « كومونيتاريزم » (الفصل المجتمعي): «لا ينبغي لجاذبية الهوية الوطنية أن تعمل كستار جمعي يتحول مبدأ الدمج خلفه إلى جسد بلا روح يتعايش مع مذهب الفصل المجتمعي الذي لم يبرز الآن إلا كنتيجة لإخفاق الهوية الوطنية».