دخول شهر ماي بالمغرب..لا يعني فقط الاحتفال بالعيد العمالي أو ترديد مطالب الطبقة الشغيلة أو تنظيم المسيرات و المهرجانات الخطابية…بل يفوق ذلك بكثير فـهو شهر ” أمني ” بإمتياز يخلد فيه المغاربة ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية يوم 14 ماي و ذكرى تأسيس المديرية العامة للأمن الوطني يوم 16 منه…
وهي الأجهزة التي سهرت على أمن و إستقرار المجتمع في وجه عُتاة الجريمة بالداخل و المتربصين بالمقدسات الوطنية و الدستورية و بصورة المغرب بالخارج…لـذلك كان من الطبيعي أنه للتشويش على الأمن و النظام العام و الطمأنينة العامة بالبلاد ، فلابد من ضرب الساهرين عليه أولًا…وهذا ما نعاينه و نقرؤه منذ مدة في المنصات العدائية سواء مباشرة عن طريق كتيبة الوحل الإعلامي الممول من طرف سونطراك ، أو عن طريق بعض ” الكلاب الضالة ” المقيمة بالخارج و المحسوبين على المغرب …
لكن في احتفالات 16 ماي من سنة 2003 ستختلط الدموع بالدماء و الفرح بالصراخ و الأمل بالألم..بقيام مجموعة من ” الأوغاد السفلة ” بعدوان إرهابي أثيــم خلف قتلى وجرحى ابرياء مغاربة و أجانب بمناطق مختلفة بمدينة الدار البيضاء..حيث استهدفوا النموذج المغربي في التـديـن ومذهبه المالكي الوسطي و استقراره و سكينته…
وهي الواقعة الأليمة و الغادرة التي ستخلد صورة جديدة من تلاحم الشعب و العرش..في مسيرة مليونية قـلّ نظيرها في شوارع الدارالبيضاء من أجل السلام و التسامح و مناهضة العنف والتعصب…استمدت روحها و فلسفتها من المسيرة الخضراء عند كل استهداف غادر لثوابت الأمة ومقدساتها…حيث انتصرت لشعارات الثلاثية المغربية المقدسـة أي الإسلام و إمارة المؤمنين و الوطن…
و بخطاب ملكي قوي يوم 29 ماي 2003 يفكك فيه رئيس الدولة المغربية دلالات الحادث الإرهابي و يرسم احداثيات مواجهة الإرهاب والتطرف…كان مبتدئها تعليمات فورية للسيطرة على الموقف و بعث الثقة في النفوس و بإصدار قانون رقم 03/03 المتعلق بمكافحة الإرهاب يوم 28 ماي من نفس السنة..ثم إرساء ترسانة قانونية مهمة من بينها قوانين مكافحة مكافحة جرائم غسل الاموال وتمويل الارهاب..
ثم خطاب 30 أبريل 2004 والذي أسس به أمير المؤمنين مرحلة إعادة هيكلة الحقل الديني و تجديده ، و تحصينا للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب …و ذلك بإلقائه أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية..وما تبع ذلك من تأسيس مؤسسات دينية جديدة أو تأهيل اخرى قديمة و خلق قنوات إعلامية تجعل من الدين و الشريعة و المذهب المالكي…موضوع مادتها الإعلامية…ثم انطلاق ما عرف بمسلسل المراجعات…و أخيرا التنصيص الدستوري على المجلس الأعلى للأمن في المادة 54 من دستور 2011…
لكن بعيدا عن هذا التراكم القانوني و الدستوري و الحقوقي.. والذي دشنه جلالة الملك محمد السادس في خطاب المفهوم الجديد للسلطة سنة 1999 المتعلق بتوطيد سلطة الدولة و دعائم سيادة القانون و سمو القضاء الفعال.. وهو المفهوم الذي لم يكن حسب خطاب مارس 2013 اجراءا ظرفيا لمرحلة عابرة أو مقولة للاستهلاك وإنما هو مذهب في الحكم مطبوع بالتفعيل المستمر والالتزام الدائم بروحه و منطوقه..يضيف خطاب الملك محمد السادس..
فإننا راكمْنـا و خلال عقديْـن من الزمن ثقافة أمنية جديدة و مصطلاحات أمنية جديدة..من قبيل الحكامة الأمنية الرشيدة و شرطة القرب و الإنتاج المشترك للأمن و تنظيم الأبواب المفتوحة للأمن و المفهوم الجديد و المتجدد للسلطة و الانفتاح على الاعلام و انفتاح المؤسسات السجنية وغيرها من المصطلحات التي تنتمي إلى مجالات سيادة القانون والأمن وثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية..
لكن كل هذه التراكمات كانت نتاج مضامين خطابات ملكية سامية جعلت من ” صيانة الأمن مسؤولية كبيرة ، لا حد لها ، لا في الزمان و لا في المكان. وهي أمانة عظمى في أعناقنا جميعا….” ويضيف جلالته “.. فالكل مسؤول عندما يتعلق الامر بقضايا الوطن…”
ولأنه ” لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ..” كما قال جلالة الملك…فإنه لا أمن بدون أمنين..
لذلك أشادت العديد من الخطابات الملكية بجهود وتضحيات المصالح الأمنية و بالفعالية في استباق و إفشال المحاولات الإرهابية رغم الضغوط و قلة الإمكانيات…و في الوقت الذي أوصى جلالته بتمكين الادارة الأمنية من الموارد البشرية والمادية اللازمة..فإنه ذكر بضرورة تخليق الإدارة الأمنية و تطهيرها من كل ما من شأنه أن يسئ لسمعتها و للجهود الكبيرة التي يبذلها أفرادها في خدمة المواطنين…
اليوم عندما نرى المغرب يجني ثمار سنوات من الجهد و البناء في مجال الحكامة الأمنية و تأهيل الموارد البشرية والبنية التحتية للأجهزة الأمنية..بإشراف شخصي لرئيس الدولة المغربية الملك محمد السادس من خلال زيارته التاريخية لمقر الديستي يوم 24 أبريل من سنة 2018…و من خلال رجالات الإدارة الأمنية المشهود لهم بالكفاءة في محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود…فإننا لم نعد نتفاجأ من توشيحات السيد ” عبد اللطيف الحموشي ” المدير العام للأمن الوطني و لمراقبة التراب الوطني ( الديستي ) من طرف العديد الدول أو استقباله من طرف كبار الأمنيين في دول أوروبية كبرى…
لقـد شوهد الرجل في عدة مناسبات وهو يقف على تفاصيل تنظيم تظاهرات عالمية كمونديال قطر 2022 ، أو مباريات الديربي البيضاوي ، أو أثناء احتضان مدينة طنجة لاجتماع قادة الشرطة والأمن العربي في دجنبر 2023 ، أو الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمدينة مراكش في أكتوبر 2023..كما نجح في دجنبر 2023 بمدينة فيينا النمساوية في تقديم ملف ترشيح المغرب لاحتضان أشغال الدورة 93 للجمعية العمومية للشرطة الجنائية ( الانتربول) بمراكش سنة 2025…
لقد خرجنا من الضربة الارهابية ليوم 16 ماي من سنة 2003 أكثر قوة وأقوى تنظيما سواء على المستوى المؤسساتي أو القانوني أو الحقوقي أو التربوي…وأصبح المغرب بفضل قوة تبصُـر وبصيرة جلالة الملك محمد السادس في مجال الحكامة الأمنية ومحاربة الإرهاب و التطرف من الرواد العالميين في مجال التعاون الأمني الدولي…وهو ما نلمسه في تقارير أمنية خارجية و تصريحات مسؤولين دوليين ( امريكا و بريطانيا و اسبانيا و بلجيكا و النمسا و السعودية و الامارات وقطر …). كوزير الداخلية الفرنسي في زيارته الأخيرة و استقباله بالرباط من طرف السيد الحموشي في انتظار ترتيبات تنظيم أولمبياد باريس في يوليوز 2024…و كذا ترتيبات أنظمة الحماية و الاستباق لتنظيم كأس العالم بكل من اسبانيا و البرتغال و المغرب سنة 2030…
لم نصل بعد الى نهاية الطريق في مشوار القضاء على الارهاب والجريمة المنظمة..و لأن ” أمن المغرب واجب وطني لا يقبل الاستثناء ولا ينبغي أن يكون موضع صراعات فارغة أو تهاون…في أداء الواجب الوطني و إنما يقتضي التنافس الإيجابي في صيانة وحدة الوطن و أمنه واستقراره ـ يقول جلالة الملك ـ
فإن تخليد الذكرى الواحد والعشرين لأحداث 16 ماي الأليــمة سنة 2024 ، يجب أن تبقى علامة على يقضة المغرب وجنوحه للسلام و التسامح و مناهضته للتطرف و الغلو…وعلى علو كعب رجالاته في محاربة الجريمة المنظمة و تلك العابرة للحدود…