ليس صدفة أن يثار الحديث عن صورة تجمع بين العاهل الإسباني الملك فيليبي السادس ورئيس الاستخبارات الداخلية والأمن المغربي عبداللطيف حموشي، بمناسبة مشاركته في فعاليات الاحتفالات الرسمية للذكرى السنوية الـ200 لتأسيس جهاز الشرطة الوطنية، هنا السياق يحكم والرسائل كانت واضحة؛ أولا، لمن مازال لديه أمل في زعزعة التوافق الذي تم بين المملكتين على أعلى مستوى. وثانيا، لمن يدق إسفين التوتر بين البلدين من بوابة التجسس. الرسالة تقول إن الأمن القومي أهم الأولويات وإن ضمانات الشفافية واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية التي تم وضعها ستبقى سارية ولن تتأثر بمحاولات الدفع في اتجاه تأزيم العلاقات.
زيارة عبداللطيف حموشي ليست اعتباطية بل جاءت ردا عمليا على المشوشين. وهو ما أكده في شهر مارس الماضي تقرير جهاز مكافحة التجسس الإسباني السنوي حول “الأمن الوطني خلال سنة 2023”، الذي نظر إلى المغرب باعتباره الجار الجنوبي الذي يشترك مع إسبانيا في التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، ويواجه معها تحديات أمنية متنامية، مؤكدا أن “المغرب لا يمارس أي تدخل في الشؤون الداخلية للجارة الشمالية”، بخلاف دول أخرى قال عنها التقرير إنها “تمارس أعمالا عدائية فوق الأراضي الإسبانية، وهي روسيا والصين”؛ يقصد أعمال تجسس بالقطع.
السعي الإسباني للتوسع في أفريقيا لا يمكن أن يكون له أي أثر دون تفاهمات متقدمة مع المغرب، وبشكل خاص على المستوى الأمني، ومن المشجع أن قضايا الأمن وما يتم تسطيره تحت هذا البند من قواعد في السياسة والدبلوماسية والاقتصاد والتجارة ظهرت في الاتفاقات التي تم توقيعها بين البلدين، كخارطة طريق يتم تنفيذ بنودها بدقة وخطوة خطوة، لبناء هيكل متين في العلاقات الثنائية، فالجغرافيا والتاريخ يتحكمان في موازنة معادلة ما سيربحه الطرفان على المدى البعيد والاستفادة من رياح المتغيرات بما تسمح به الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
الهجرة حصان طروادة الذي يحمل في طياته بذور الإرهاب، لذلك كانت سياسة المغرب واضحة في هذا الباب وهي تحسين حياة اللاجئين والمهاجرين حتى لا يتم استغلالهم من قبل المنظمات الإرهابية
ليس غريبا أن يكون حموشي المسؤول الأمني والاستخباراتي الأفريقي الوحيد الذي شارك في هذه الاحتفالات الرسمية بحضور العاهل الإسباني، فالرجل يمثل بنية أمنية مغربية متماسكة ذات صيت عالمي استطاعت أن تفرض بأسلوب نموذجي ثقتها بفضل فاعليتها وقدرتها على التنسيق والمساهمة في تعزيز الأمن الدولي والإقليمي.
لقد تم تشكيل البيانات منذ فترة طويلة وفقًا لما يريده قادة المغرب وإسبانيا حقًا، وبالتالي تم فصل الأمن القومي والإستراتيجي عن القضايا التي يمكن أن تتحول إلى أصوات للتلاعب بعواطف الناس وتجييش الكل ضد الحكومة الإسبانية، وإظهار رئيسها وكأنه مسلوب الإرادة ضعيف الحيلة أمام المغرب، وهذا ما يبرع اليمين الإسباني الشعبوي في تسويقه.
تلوث الهواء السياسي وسيطرة الأهواء والأجندات ضيقة الأفق، عوامل أساسية لإثارة الأزمات وتقويض مبادرات إقليمية ودولية تسعى لإعطاء الأمن القومي نسبة كبيرة من الثبات وخلق قنوات تواصل مستمرة تنشط بفاعلية وقت الأزمات. ذلك الجو الملوث بالعنصرية والكبرياء الزائف والتعالي وعدم قراءة ذكية للمتغيرات والتوازنات الجيوستراتيجية عند بعض الأحزاب والشخصيات المؤثرة داخل إسبانيا، هو ما يحذر منه المغرب شركاءه من الوقوع فيه، خصوصا مع رغبة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز تعزيز نفوذ بلاده في أفريقيا، لكن يتعين عليه أولا الحسم في الأذرع السائبة داخل بلاده، والتغلب على إحجام قادة الأعمال والممولين الإسبان عن الاستثمار في علاقات مستمرة وغير خاضعة في عمقها للأهواء العابرة.
زيارة حموشي لإسبانيا ولقاؤه مع المسؤولين الكبار لدى الجار الشمالي كالمدير العام للشرطة الوطنية فرانسيسكو باردو بيكيراس والمفوض العام للاستعلامات أوخينيو بيرييرو بلانكو، إلى جانب رافاييل بيريز رويز وزير الدولة الإسباني المكلف بالأمن وجوليان أفيلا بولو المفوض العام للأجانب والحدود، يعززان ركائز الأمن القومي المستدام بين البلدين، فالكل واع هناك بأن المغرب شريك غير عادي، وعليه يتعين تعميق تبادل المعلومات بين الوكالات الاستخباراتية للبلدين من أجل تحديد هوية المنظمات وشبكات الاتجار غير المشروع بالمخدرات، والأشخاص الذين يملكون رغبة في خلخلة الأمن في شموليته والوقوف ضد سعيهم لإلحاق الدمار بالبلدين.
التقارب بين الرباط ومدريد منذ اعترفت الأخيرة بسيادة المغرب على صحرائه، لم يرق لأطياف سياسية ودبلوماسية وإعلامية هناك، ما جر على رئيس الحكومة وابلا من الانتقادات التي وصلت إلى حد فبركة تقارير لا أساس لها تقول إن المغرب تجسس على هواتف المسؤولين الإسبان وعلى رأسهم بيدرو سانشيز. لكن حضور حموشي كواجهة للهيكل الأمني المغربي ينسف تلك الاتهامات ويؤكد أن التنسيق العملياتي والمساعدة التقنية قائمان ومستمران وغير قابليْن للمزايدات أو التشويش على الجهود المبذولة لمواجهة تهديدات الخطر الإرهابي ومختلف صور الجريمة المنظمة.
هناك داخل المملكة الإسبانية من يخوف بيدرو سانشيز من المغرب، ويريد طمس المساهمة الفعالة لأجهزة الأمن والمخابرات المغربية في تجنيب إسبانيا ودول غربية أخرى، من بينها فرنسا، هجمات إرهابية خطيرة
في عالم اليوم العابر للحدود الوطنية، وللتخفيف من المخاطر الأمنية، لا يمكن تحقيق سياسة أمنية وطنية مستدامة من خلال القدرات الوطنية وحدها. لذلك وضعت المملكة المغربية إستراتيجية بعيدة المدى يعتمد الأمن القومي فيها على مبدأ الأمن متعدد الأطراف والتعاون المتبادل المتكافئ الرافض للتدخل في شؤون الآخرين، وتكون نتيجته مكاسب مبنية على معادلة رابح – رابح، وغير متعارضة مع الاحترام المتبادل والإثراء المتبادل، دون أن ننسى أن إسبانيا والمغرب تتشابك رؤيتهما للأمن الغذائي المبني على سياسة زراعية مشتركة مع ما تفرضه الجغرافيا السياسية.
مقابل سعي إسبانيا إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع المغرب ومنه نحو أفريقيا، هناك داخل المملكة الإسبانية من يخوف رئيس الوزراء بيدرو سانشيز من المغرب، ويريد طمس المساهمة الفعالة لأجهزة الأمن والمخابرات المغربية في تجنيب إسبانيا ودول غربية أخرى، من بينها فرنسا، هجمات إرهابية خطيرة وعدم تكرار القصة المأساوية التي شهدتها مدريد عام 2004، بتوفير معلومات إستراتيجية غاية في الأهمية والدقة في عالم مترابط حيث يتم اختبار الاستقرار والأمن من خلال كثافة المعلومات وكيفية استثمارها.
المغرب يملك مؤهلات لمحاصرة وتعقب الجذور الشاردة للإرهاب الذي يمتد نشاطه إلى كل مكان، بما في ذلك منطقة الساحل، حيث يؤثر عدم الاستقرار بشكل مباشر على أمن البحر المتوسط، وحيث لا يزال تنظيم داعش يشكل تهديداً وتمتد جذوره في مناطق متعددة.
ولا يغيب عن المؤسسات الأمنية في البلدين أن الهجرة يمكن أن تكون حصان طروادة الذي يحمل في طياته بذور الإرهاب عندما تتدخل أذرع التطرف للعبث بأفكار المهاجرين. لذلك كانت سياسة المغرب واضحة في هذا الباب، وهي تحسين حياة اللاجئين والمهاجرين الذين يتم استغلالهم من قبل المنظمات الإجرامية، وحث الأطراف الدولية، ومنها إسبانيا، على تحمل مسؤولية مشتركة أكبر، وتقديم المزيد من المساعدات الإنسانية والتنموية طويلة الأجل.