لماذا تهجر النخب العربية فرنسا
نشرت صحيفة لوموند الفرنسية مؤخرا مقالا سلطت فيه الضوء على ظاهرة هجرة الكفاءات. لا يتعلق الأمر هذه المرة بهجرة الكفاءات من المغرب أو بلدان جنوب المتوسط الأخرى نحو أوروبا وإنما بهجرة الكفاءات الفرنسية المسلمة وذات الأصول العربية من فرنسا إلى بلدان أخرى في أوروبا وخارجها.
أشارت الصحيفة إلى دراسة أجرتها مجموعة من الجامعيين الفرنسيين وصدرت مؤخرا في شكل كتاب بعنوان “فرنسا تحبها لكنك تغادرها” حيث أوضح فيها هؤلاء الجامعيون أن الظاهرة شملت الآلاف إن لم يكن عشرات الآلاف الذين هاجروا من البلاد خلال الأعوام الأخيرة.
من بين هذه الكفاءات، حسب الصحيفة، مهندسون وأساتذة جامعيون وفنانون وموظفو مصارف كانوا مستقرين في فرنسا وحاصلين على جنسيتها منذ سنوات.
◄ أغلبية المسلمين المقيمين في فرنسا شعروا بأن هناك تمييزا ممنهجا ضدهم على خلفية دفاع الدولة عن مفهومها للعلمانية بما في ذلك حظرها للمظاهر وأنماط اللباس التي ترى فيها تعبيرا عن مواقف دينية
غادر هؤلاء البلاد بعدما ضاقوا ذرعا بما وصفوه “بالأجواء الخانقة” من حولهم في فرنسا.
تكوّن هذا الشعور تدريجيا لدى هؤلاء منذ سنة 2015 بعد الأحداث الإرهابية التي كانت فرنسا مسرحا لها وكان معظم مقترفيها من المتطرفين الإسلاميين.
لم تكن فرنسا البلاد الغربية الوحيدة التي استهدفها الإرهابيون خلال الأعوام الأخيرة. لكن ردود الفعل في فرنسا كانت مختلفة عن غيرها. غذّت الأحداث الإرهابية مواقف الريبة والعداء داخل فرنسا تجاه كل ما له علاقة بالعرب والمسلمين. وساهمت شرائح مؤثرة من الطبقة السياسية – بما فيها البعض من أفراد السلطة الحاكمة – ووسائل الإعلام في خلق انطباع لدى الكثير من الكفاءات الحاملة للجنسية الفرنسية بأنها غير مرغوب فيها.
ثم اندلعت الحرب في غزة وتفاقم باندلاعها هذا الإحساس بعدما فرضت السلطات الفرنسية تضييقات على مظاهر المساندة للفلسطينيين بلغت أحيانا حد الحظر التام للمظاهرات المساندة للشعب الفلسطيني خاصة خلال الأسابيع الأولى التي تلت 7 أكتوبر، على أساس أن هذه المظاهرات قد تمثل تهديدا للأمن العام. وكان موقف فرنسا في هذا المجال أكثر تشددا من موقف معظم البلدان الأخرى في أوروبا و حتى الولايات المتحدة.
خلقت تلك التضييقات لدى العديد من عرب فرنسا ومسلميها انطباعا بأنه ليس لهم مجال للتعبير دون قيود عن مواقفهم من القضايا التي تهمهم وأن حريتهم ليست من بين الحريات التي تضمنها الديمقراطية الفرنسية.
ويقول البعض من الفرنسيين من أصول عربية إنهم فهموا وقتها أن ما هو مطلوب منهم هو الابتعاد عن الشأن العام والاكتفاء بالعمل ودفع الضرائب في آجالها.
ربما كانت السلطات في باريس تسعى من وراء سياستها تلك للنأي بفرنسا عن توترات الشرق الأوسط خاصة وأن البلاد تَعُدّ أكبر جالية مسلمة في أوروبا وكذلك أكبر طائفة يهودية في العالم بعد أميركا وإسرائيل.
وكان من المفهوم ضمنيا أن باريس كانت متخوفة من أن تدفع التوترات بيهود فرنسا إلى الهجرة نحو إسرائيل مثلما فعل هؤلاء بعد الأحداث الإرهابية لسنة 2015.
لكنه كان من المفروض أن تتخذ فرنسا رغم كل شيء مواقف متوازنة تأخذ بعين الاعتبار علاقات فرنسا التقليدية ومصالحها في المنطقة العربية وكذلك مشاعر أفراد نخبها العربية والمسلمة.
غير أن باريس رأت غير ذلك. وخلقت مواقفها خاصة خلال الأسابيع الأولى من الحرب شعورا بأن مساندتها للهجمة العسكرية الإسرائيلية في غزة سوف تكون غير مشروطة. ورغم مشاهد القتل والدمار التي خلّفتها الهجمة الإسرائيلية كان تركيز الساسة على التنديد بتبعات الهجوم المباغت لحماس يوم 7 أكتوبر. وفاقمت هذا الشعور المقاربة المتحيزة لوسائل الإعلام الفرنسية التي اتبعت منحى يختلف عن بقية وسائل الإعلام الغربية الأخرى التي حافظت على حد أدنى من المهنية والتوازن.
لم يتبدد الإحساس بالتحيز إلى اليوم بتواصل التتبعات القضائية ضد العديد من وجوه اليسار والمثقفين من أصول عربية بتهمة “تبرير الإرهاب”، وذلك من أجل تصريحات مساندة للفلسطينيين أو منتقدة لإسرائيل كانوا أدلوا بها.
◄ من المفترض أن تدفع موجة الهجرة الفاعلين في فرنسا إلى الاستماع لمشاغل نخب كان وجودها يشكّل دوما مصدر إثراء ثقافي واجتماعي
غير أن الحرب في غزة لا تفسر كل شيء. فردود الفعل بعد الحرب جاءت فقط لتعمّق البون بين المهاجرين والبلاد التي اختاروها كمستقر لهم ولأبنائهم.
فما الذي حدث حتى تتلبد سحب فرنسا بشكل جعل شريحة من كفاءاتها العربية والمسلمة لا ترى مستقبلها في البلاد التي تحمل جنسيتها بعد أن كانت تعتبر نفسها جزءا من نسيجها؟
يعود السبب إلى المسار التراكمي على مدى السنين وهو مسار ساهم فيه أفراد النخبة السياسية والإعلامية.
نشأ تدريجيا لدى الكثير من أفراد النخبة المتحدرة من أصول عربية أو المسلمة إحساس بأنه، رغم حصولهم على جنسية فرنسا منذ سنوات وتقدمهم على صعيد المسارات المهنية، فقد بقي هناك حاجز يمنعهم من الانصهار بشكل فعلي داخل المجتمع الفرنسي. هذا الحاجز نتج عن الرفض الذي كان يقابَل به تشبثهم بالروابط الثقافية والدينية والسياسية التي بقيت تجمعهم بأوطانهم الأصلية حتى ولو كان تعلقهم بالجذور في الكثير من الأحيان رمزيا ومحدودا.
انصهار الأقليات العربية في المجتمعات الغربية التي تحتضنها البلدان يتطلب منحها هامشا للتمايز الثقافي على الأقل خلال مرحلة معينة من تطورها، دون أن يعني ذلك ترخيصا لها بخرق قوانين البلاد وتعكير صفو الحياة الاجتماعية فيها. وهذا ما فهمته المجتمعات الأنجلوسكسونية ولم تشأ أن تقبله إلى حد كبير فرنسا.
ما حدث هو أن قطاعات واسعة من الطبقة السياسية والنخبة الإعلامية في فرنسا واصلت الدفع لسنوات طويلة نحو فهم متشدد للعلمانية. لم يكن لدى أغلبية عرب فرنسا ومسلميها رغبة في إظهار العداء “لقيم الجمهورية” رغم أن تصرفات بعض الأقليات المسلمة، مثل الإصرار على الصلاة وسط شوارع المدن المزدحمة، شكّلت سلوكيات مستفزة لا تخدم صورة العرب والمسلمين بشيء .
ليست هناك لمعظم أفراد النخب المهاجرة مشكلة مبدئية مع العلمانية بل إن الكثير منهم كان يرى في فرنسا ملجأ لهم من التشدد الديني الذي عايشوه في أوطانهم الأصلية.
ولكن منظومة القيم التي كانت السلطات تريد فرضها بدت وكأنها غطاء لهجمة مقنّعة ضدهم.
لم يكن أحد منهم يجادل في حق فرنسا المشروع بعد الاعتداءات الإرهابية الشنيعة التي تعرضت لها سنتي 2015 و2016 في العمل على تفكيك شبكات التطرف الديني ومصادر تمويلها. ولم يكن أحد في الواقع يشعر بالغضب أكثر من هؤلاء المهاجرين عندما يتورط أحد أبناء جلدتهم في أعمال إرهابية.
المشكلة هي أن مبادرات السلطة وسردياتها بعد الأحداث الإرهابية أظهرت ميلا لعدم التفريق بين الإسلام كديانة وحضارة من جهة والتطرف الإسلامي كأيديولوجيا تحرض على العنف والإرهاب من جهة أخرى. كان هناك خلط بين الانتماء العقائدي للحركات السلفية والسلوكيات المحافظة والمسالمة لأفراد الأقلية المسلمة في فرنسا.
بعض مبادرات السلطة كانت تبدو عشوائية وغير مقنعة مثل خوض السلطات الفرنسية في قضايا الإصلاح في الإسلام دون معرفة حقيقية بما يعنيه الإصلاح الديني في العالم الإسلامي.
ومثلما أظهر ذلك استطلاع للرأي أجري هذا العام فإن أغلبية المسلمين المقيمين في فرنسا شعروا في نهاية المطاف بأن هناك تمييزا ممنهجا ضدهم على خلفية دفاع الدولة عن مفهومها للعلمانية بما في ذلك حظرها للمظاهر وأنماط اللباس التي ترى فيها تعبيرا عن مواقف دينية وعقائدية تشجع على “الانفصال” عن المجتمع الفرنسي.
◄ الأحداث الإرهابية غذّت مواقف الريبة والعداء داخل فرنسا تجاه كل ما له علاقة بالعرب والمسلمين. وساهمت شرائح مؤثرة في خلق انطباع لدى كفاءات حاملة للجنسية الفرنسية بأنها غير مرغوب فيها
وزاد الطين بلة ركوب أقصى اليمين للموجة واستغلاله لها لخدمة أجنداته مما جعل قضية الهجرة الأجنبية في فرنسا مثلا تحتل صدارة الأولويات السياسية خاصة خلال الحملات الانتخابية، مثلما هو الحال الآن قبل أسابيع من الانتخابات البرلمانية الأوروبية. ورغم أن أصحاب الجنسية الفرنسية، مهما كانت أصولهم، غير معنيين مباشرة بالتضييقات التي يدعو إليها اليمين المتطرف فإن الجدل السياسي الحاد زاد في تأجيج مشاعر الضيق والريبة لدى النخب العربية والمسلمة تجاه ما كانت تشعر به من ضغوطات تحيط بها.
كان من المفروض أن تبقى النخب العربية والمسلمة بمنأى عن أيّ قطيعة مع المجتمع الفرنسي الذي احتضنها واحتضن أحلامها، وما كان من المتوقع أن يعترض مسار اندماجها أيّ عراقيل.
من المفترض أن تدفع موجة الهجرة الفاعلين في فرنسا إلى الاستماع لمشاغل نخب كان وجودها يشكّل دوما مصدر إثراء ثقافي واجتماعي. لكنه ليس هناك في الوقت الحالي ما يوحي برغبة في الاستماع لهذه المشاغل أو باحتمال حدوث تعديل في مواقف السلطة والدوائر المؤثرة بشكل يطمئن النخب التي قد تبحث عن المغادرة. بل إن بعض الصحف الفرنسية انتقدت المشاغل التي عبّر عنها أفراد النخبة بخصوص عدم ارتياحهم لأوضاعهم قائلة إن الأمر يتعلق بمظلومية مصطنعة ومبالغ فيها من قبلهم لا تخدم إلا مصلحة المتطرفين الإسلاميين.
لن تجد فرنسا صعوبة في جذب جيل جديد من الكفاءات الأجنبية الشابة لمحاولة ملء الفراغ الذي سوف تتركه النخب العربية والمسلمة التي تستهويها المغادرة. ولكنها سوف تخسر في الأثناء ليس فقط تجربة هذه الكوادر المغادرة وكفاءتها وإنما هي أيضا سوف تضحي بجانب من سمعتها كبلاد منفتحة على العالم العربي الإسلامي وحاملة لقيم التنوع والتسامح.