رئاسيات جزائرية مغلقة في صيف حار
أكاد أجزم أنه رغم التدهور الذي عرفته مكانة الجزائر هذه السنة في مجال حرية الصحافة، كما بينه التقرير السنوي، الذي أنجزته منظمة «مراسلون بلا حدود»، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وهي تتقهقر من المرتبة 136 إلى 139 ضمن قائمة من 180 دولة. تبقى مكانة قد لا تعكس كل درجة الغلق الفعلي الذي يعيشه الوضع الإعلامي والسياسي في الجزائر منذ سنوات، وتبقى في حاجة إلى فحص، يأخذ بعين الاعتبار منطق الاتجاهات طويلة المدى، والتفاصيل اليومية الوحيدة القادرة على تفسير الحالة الجزائرية بكل الخصوصيات السلبية التي ارتبطت بها.
فقد عرف الوضع في الجزائر في سنوات ما بعد الحراك عملية غلق ممنهجة، مست المجالات السياسية والإعلامية، أعاد التقرير الدولي التذكير بها، ولم يكن يتوقع حصولها الجزائريون، بعد فترة الحراك، التي عرفت انتعاشا واضحا على مستوى أشكال التعبير الجماعي والفردي، لم يعشه الجزائريون منذ الاستقلال، لتقترب الجزائر في سنوات حكم الرئيس تبون من الوضع الذي كان سائدا في حالة الأحادية والحزب الواحد الذي عرفته، وهي ترتبط بنوع من التدجين، الذي ميز سلوك الأفراد والجماعات، كما كان الحال مع رجال الإعلام ونسائه والكثير من النخب السياسية والجامعية، التي تخصصت في الدفاع عن إنجازات وهمية، كانت الوحيدة التي تفطنت لوجودها وهي تحتكر المشهد الإعلامي الخاص والعام، لم يعد يفرق بينهما المشاهد – المواطن المغلوب على أمره، ما جعل الوضع أسوأ على مستوى الحريات، مقارنة حتى بفترة حكم الرئيس بوتفليقة وقبله اليامين زروال، رغم الأهوال التي عاشها رجال الاعلام ونسائه في مواجهة القوى السياسية الدينية المتطرفة خلال فترة حكمهما، التي ارتبط فيها العنف بالفساد، كما كان الشأن خلال فترة حكم بوتفليقة الطويلة، التي ساد منطقه داخل الفضاء الإعلامي والسياسي بشكل لم تعرفه الجزائر من قبل.
ضمن حالة ميزها تغول النظام السياسي على حساب المجتمع، بمختلف قواه الاجتماعية، واحتكار أحادي في اتخاذ القرار بمختلف أشكاله الاقتصادية والمؤسساتية، داخل نظام ريعي استقل فيه المستوى السياسي عن كل مساءلة، من أي نوع من قبل المجتمع وقواه الفاعلة، لم يترك للمواطن الفرد الكثير من فرص التعبير عن الرأي المستقل، الذي لم يعد قادرا على القيام به إلا عدد قليل جدا من رجال ونساء المهنة، إذ تمكنوا من الصمود بالبقاء في البلد وعدم الهجرة، كما أصبح معروفا في الجزائر، إذ أن الكثير من المؤشرات تؤكد عودتها القوية في السنوات الأخيرة، كاتجاه ثقيل يمس شرائح واسعة من الفئات الوسطى المؤهلة التي قادت تجربة التنمية في الدولة الوطنية بعد الاستقلال. كانت نتيجتها إفراغ البلد من نخبه المتميزة والنوعية، أو أسكتتها عن القول المباح، في حالة خيار البقاء الصعب، الذي ندم عليه الكثير منهم مع الوقت وهم يشاهدون الوضع الذي آلت إليه الأوضاع في البلد. توجيه النظرة بشكل أوسع إلى المشهد السياسي بعلاقاته المتشبعة مع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، سيخبرنا أن ما يميز موازين القوى بين هذه النخب والنظام، لا يقتصر على المستوى السياسي والمؤسساتي فقط، فلم يعد في مقدور هذه الفئات المهنية التي يفترض فيها الدفاع عن حقوق المواطنين والاهتمام بالشأن العام، الدفاع عن نفسها حتى عندما يتعلق الأمر بالأمور الحياتية القاعدية، في غياب تنظيمات نقابية ومهنية تحميها، كما يحصل في الكثير من دول العالم، التي عرفت إنتاج تجارب إعلامية ناجحة، تكلم عنها التقرير السنوي لهذه المنظمة الدولية، رغم حالة النكوص الدولية في مجال الحريات التي لم يتغافل عنها التقرير هذه السنة.
ونحن نعيش سنة الانتخابات على مستوى العالم، وليس الجزائر فقط، كما نبه إلى ذلك تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود»، سنة انتخابات سنشاهد فيها الكثير من ممارسات وصور الجزائر القديمة في الجزائر الجديدة التي وُعد بها الجزائريون، بكم التملق والانبطاح المعروف عنها، في وقت تمكن فيه النظام السياسي من إنتاج خريطة إعلامية مشوهة، مرتبطة بخريطة سياسية وحزبية فارغة ومشوهة، بالدرجة نفسها وربما أكثر، هي التي سيطلب منها تقديم والترويج لمرشحين لانتخابات مسبقة، ستجري حملتها الانتخابية في عز حر الصيف، أفكر في أبناء الجنوب والهضاب العليا، الذين كانوا على رأس المشاركين في كل الانتخابات التي عرفتها الجزائر منذ الاستقلال، عكس سكان مدن الشمال، الذين تعودوا على مشاركة ضعيفة وتوجه نحو التصويت للمعارضة تقليديا، في حال توفر مشهد انتخابي تعددي، لتفتح بعض وسائل الإعلام كالتلفزيون والإذاعة مؤقتا، زيادة على الوسائط الاجتماعية، التي تبقى في الغالب خارج سيطرة السلطة، رغم حالة التضييق التي تعرفها، في غياب الصحافة المكتوبة، التي لم يعد يقرأها الجزائريون، قبُيل انطلاق الحملة الانتخابية لمدة قصيرة، تغلق بعدها مباشرة، بعد أن تكون قد شاركت بقوة في هذا «العرس الانتخابي»، الذي سينطلق فعليا بعد إعلان الرئيس عن ترشحه إلى عهدة ثانية، إذا تم حل الإشكالات القائمة بين العصب على رأس النظام السياسي، التي قد تتدخل في آخر دقيقة لقلب الطاولة، كما يمكن أن يستشف من خطاب الرئيس تبون، أمام النقابيين بمناسبة احتفالات أول مايو، وهو يوجه هجومه إلى قوى سياسية يفترض أنها حيدت ولم تعد تمثل خطرا على مشروعه السياسي. وهو يتقرب من النقابيين لحثهم على القيام بالأدوار نفسها التي تعودت المركزية النقابية لعبها لصالح الرئيس- المرشح، كما كان الحال مع كل رؤساء الجزائر قبله، حتى وهي تعيش حالة ضعف في التجنيد لصالح النقابات المستقلة التي غازلها الرئيس وهو يركز على دور الفئات الوسطى التي تمثلها هذه النقابات الأكثر تنوعا من الناحية السياسية.
ترشح الرئيس رسميا لهذه الانتخابات الذي سيتأخر الإعلان عنه، كما كان يحصل على الدوام مع الرؤساء الجزائريين، الذين لا يعرفون وضع الفروق بين حملتهم الانتخابية وتسيير هم اليومي للشأن السياسي، اعتمادا على وسائل الدولة السياسية الإعلامية والمالية، ما يؤكد مرة أخرى حالة عدم الشفافية التي عُرفت بها الانتخابات في الحالة الجزائرية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالرئاسيات المهمة. لتتأكد في الأخير النتيجة المنطقية من هذه الانتخابات التي سيغيب عنها المواطن، كما جرت العادة في الحالة الجزائرية، المغلقة إعلاميا وسياسيا، خاصة إذا تأكد عدم ترشح وجوه صاحبة كاريزما سياسية قوية، يمكن أن تجند المواطنين وتحفزهم على المشاركة، لم تعد الساحة السياسية والحزبية الجزائرية قادرة على إنتاجهم ولا القبول بترشحهم في حالة وجودهم. لنكون في الأخير أمام مشهد انتخابي معروف كنا قد شهدناه في الجزائر القديمة يعاد تكراره في الجزائر الجديدة، بوجوه قديمة هي الأخرى.