أزمة دول الساحل وتأثيرها على الجزائر
ينتابني انطباع بأن الناظر من النافذة الجزائرية لا يرى بشكل جيد المشهد في دول الساحل، الذي ما زال يتعامل معه كقضية خارجية بعيدة لا تهم الجزائر مباشرة. عامل البُعد الجغرافي قد يكون عاملا مساعدا في هذه النظرة، رغم أنه ليس الوحيد فالأمر يتعلق كذلك ببعض الاعتبارات السوسيولوجية والأنثروبولوجية المرتبطة بالأبعاد الإثنية المعقدة، التي لا يستوعبها صاحب القرار السياسي، الذي تعود على وضوح المشهد في بلده، كما تمت تنشئته على التعامل معه، ما يجعله غير قادر على فك شيفرة هذه المجتمعات المعقدة التي يختلط فيها العربي بالطرقي والافريقي. مشهد لا تحسن البيروقراطية الجزائرية بنت الشمال التعامل معه، حتى عندما يتعلق الأمر بالجزائر ذاتها، فما بالك عندما يتعلق الأمر ببلد بعيد مثل مالي أو النيجر، رغم قدم حضور أزمة دول الساحل الضاغطة على الجزائر، منذ الأيام الأولى للاستقلال، كما كان الشأن في دولة مالي في 1962.
عدت إلى التفكير في هذه القضايا بعد سماع خبر استدعاء السفير الجزائري لتقديم احتجاج على ما اعتبر طريقة عنيفة وغير إنسانية عند ترحيل المهاجرين النيجريين من التراب الجزائري، ردت عليه الجزائر باستدعاء مماثل للسفير النيجيري. استدعاء للسفراء يضاف لما حصل مع مالي، التي احتجت هي الأخرى بعد ما اعتبرته أعمالا عدائية وتدخلا في شؤونها الداخلية بعد استقبال الجزائر لوفود مالية، صنفت من قبل دولة مالي كأطراف إرهابية معادية للوحدة الوطنية، كما كان الحال مع الإمام ديكو. أزمة أدت في نهاية المطاف إلى إلغاء اتفاقية الصلح المبرمة بين المعارضة الطرقية والدولة المركزية في مالي المعروفة باتفاقية الجزائر 2015.
كل هذه التطورات حصلت في ظرف سياسي وأمني، تميز بتحولات في رأس السلطة في أكثر من دولة من دول الساحل كمالي والنيجر، أدت إلى تغييرات في هرم السلطة، زادت من تدخل سافر للجيوش في اللعبة السياسية، في جو تميز باستقطاب دولي، خسرت فيه فرنسا الكثير من المواقع لصالح قوى دولية منافسة، على غرار روسيا التي دعمت مواقعها في هذه المنطقة من شمال افريقيا التي تعيش حالة اضطراب قصوى، إذا وسعنا دائرة النظر إليها إلى ما يحصل في ليبيا وتشاد وحتى الحال في السودان، الذي تتأثر هذه الدول بما يحصل داخله من صراع عسكري وسياسي، بين قوى نافذة تهدد الوحدة الترابية لهذا البلد الشاسع والمتنوع عرقيا، كما هو حال كل بلدان المنطقة. أبعاد دولية لا يمكن التغافل عنها مرتبطة بقرب هذه المنطقة من المتوسط، بما تعرفه من هجرة بشرية واسعة نحو الشمال، في وقت زاد فيه النمو الديموغرافي لهذه الدول الافريقية، مقرونا بنمو اقتصادي ضعيف لا يساعد على استقرار الأوضاع في هذه البلدان الهشة سياسيا واقتصاديا، رغم ثرواتها الطبيعية التي يتكالب عليها الجميع في غياب استراتيجية وطنية وإقليمية فعالة، كان يمكن أن تكون أرضية لتعاون جهوي يخرج هذه المنطقة من حالة التخلف التي تعيشها.
لنعود إلى النافذة الجزائرية التي تبدو حتى الآن غير قادرة على إنتاج استراتيجية فعالة لدفع التنمية في هذه البلدان، بسبب الضعف الاقتصادي للجزائر الذي يمنعها من أن تتحول إلى قاطرة في دفع هذه المنطقة نحو افاق اقتصادية أحسن، دون توسيع دائرة الرؤية لتشمل كل منطقة الشمال الافريقي ضمن استراتيجية تعاون نزيه مع بلدان الضفة الشمالية للمتوسط التي من مصلحتها القصوى التعاون لدرء تبعات الهجرة غير الشرعية، التي يمكن أن تزداد وتتكاثر، دون التطرق إلى الملفات الاقتصادية التي نجدها وراءها كأسباب مباشرة مثل، البطالة وضعف النمو الاقتصادي وعدم بناء قاعدة اقتصادية، في مرحلة ازدادت فيه أزمة الفلاحة التقليدية، في ظرف متميز بتقلبات حادة للمناخ كان الأكثر أثرا في هذه المنطقة من العالم على شكل جفاف حاد يسودها منذ عقود، بكل تبعاته على الهجرة الداخلية والخارجية، في منطقة تشهد تكاثرا رهيبا للمجموعات الإرهابية لا تعترف بحدود الدولة الوطنية، تملك قاعدة بشرية تشمل أبناء من كل دول المنطقة.. عرفت لسنوات كيف تستغل غياب الدولة في هذه المناطق الصحراوية القاحلة صعبة المراس على الجيوش الوطنية ضعيفة التأهيل والقدرات العسكرية.
لتبقى الأسئلة الصعبة مطروحة أمام الجزائر مهما كانت النافذة التي تختارها لتطل منها على مشاكل دول الساحل، تعلق الأمر بالبعد الدولي في هذا الصراع، الذي بدأ يحتدم مع قوى إقليمية، كما هو الحال مع الإمارات التي بدأت الجزائر في كشف دورها التخريبي في المنطقة، وهي تحرض وتمول المواقف المعادية لها، كما المغرب، الذي يبقى من مصلحته التشويش على الجزائر في إطار الصراع القديم بين البلدين المتعلق بقضية الصحراء، بكل تداعياته الإقليمية والدولية، من دون نسيان الطرف الفرنسي الأكثر تضررا مما يحصل في دول الساحل حتى الآن الذي استفادت منه روسيا عبر أذرعها العسكرية (ميليشيا فاغنر) التي وجدت فيها بعض أنظمة المنطقة ضالتها، كحل لضعف جيوشها الوطنية هي التي كانت تعتمد على الطرف الفرنسي في وضع استراتيجيتها العسكرية المتهالكة، التي لم تقدر على رفع التحديات التي توجهها الدولة الوطنية في هذه المنطقة من شمال افريقيا،
الجزائر التي لا يمكن أن يكون لها دور نوعي في الساحل، إلا إذا عرفت كيف تتغير لكي تُغير ويكون تأثيرها إيجابيا وفعالا على أكثر من صعيد، قد يبدا بالقبول بفكرة أن هذه الهجرة البشرية الصاعدة من كل الجوانب تتميز بالاستمرارية والدوام، يجب البحث لها عن جوانب إيجابية وهي تتعامل معها كيد عاملة على الأقل، يبقى الاقتصاد الجزائري في حاجة إليها في قطاعات عدة كالبناء والفلاحة إذا استمر في تطوره بوتيرة معقولة، بعد بذل الجهد الضروري على مستوى التكوين والتأهيل لهذه اليد العاملة الشابة. في الوقت نفسه الذي يجب فيه التخلص من تبعات الرؤية الضيقة التي تعودت عليها النافذة الجزائرية المتميزة بالخوف من العامل الديموغرافي، الذي يشكو منه أقصى الجنوب الجزائري الواسع، بكل خصوصياته الإثنية والتنوع الذي يعرفه، جراء تبعات هذه الهجرة الافريقية المرشحة للاستمرار والتوسع مع الوقت عليه. تصور قد يفرض على الجزائر التفكير في إعادة النظر في تقسيمها الترابي في بعده الديموغرافي، لكي يمنح الجنوب أهميته التي يتطلبها كمجال للاستثمار والعيش للسكان المكدسين في الشمال، على حساب الجنوب الواسع والفارغ ديموغرافيا، بكل التبعات المنتظرة على صناعة القرار الوطني في الجزائر الذي يجب التفكير في تعديله، لكي يأخذ بعين الاعتبار البعد الافريقي للجزائر المغيب حتى الان، عكس ما يروج له الخطاب السياسي الرسمي.