ندّد مغاربة بانتشار ظاهرة التسول حيث تحوّلت إلى مهنة تدرّ ربحا ماديا كبيرا عن طريق الاستغلال والاحتيال والمغالطة، خصوصا في المدن التي تعرف تنافسا بين المتسولين حول الأماكن الأكثر رواجا والتي أصبحت أصولا تجارية توفّر لهم أموالا، داعين إلى ضرورة تكثيف الحملات والمراقبة الأمنية لمكافحة هذه الظاهرة والحد منها.
قدم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة دستورية)، موقفه من ظاهرة “ممارسة التسول بالمغرب”، مؤكدا أن غياب دراسات معمقة ومعطيات إحصائية محينة وشاملة حول حجم التسول بالمغرب “يشكل عائقا كبيرا أمام السياسات العمومية الرامية إلى محاربة هذه الظاهرة بشكل فعال، مع توصيات بتشديد العقوبات على الشبكات التي تستغل الأطفال والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين من أجل كسب أرباح عبر استغلالهم في التسول، وكذا ممارسي التسول المهني الذين يهدفون إلى الربح، وليس إلى سد حاجياتهم.
وأكد أحمد رضا الشامي، رئيس المجلس على أن التسول “ظاهرة اجتماعية معقدة من حيث أسبابها الظرفية والبنيوية، وأبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأشكالها المتعددة، وتداعياتها على الأفراد والمجتمع والنظام العام، والاشتغال على الموضوع لاعتبارات عديدة، أولها أن ظاهرة التسول لا مكان لها ضمن طموح الدولة الاجتماعية التي يسعى المغرب إلى إرسائها بشكل تدريجي بناء على أسس إستراتيجية ومستدامة.
واشتغل المجلس على هذه الممارسة أيضا، لكونها “تمس بالدرجة الأولى فئات هشة في حاجة إلى الحماية من كل استغلال ومُتاجرة، لاسيما الأطفال والنساء وكبار السن والأشخاص في وضعية إعاقة”، ولأن التسول انتهاك للكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية للأشخاص الذين يمارسونها.
واعتبر الشامي، في الرأي الذي قدمه حول موضوع “ممارسة التسول بالمغرب”، أن انتشارها في الفضاءات العمومية “من شأنه أن يمس بالنظام العام، وبصورة المغرب في الداخل والخارج”.
وعالج القانون الجنائي المغربي هذه الظاهرة في الفصول من 326 الى 333. وميز بين المتسول الذي خصه بالفصول من 326 الى 328 والمتشرد و الذي خصه بالفصول من 329 الى 333 هذا الأخير الذي يتعلق بعقوبة إضافية بالنسبة إلى مرتكبي الجرائم المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الفصلين 331 و332.
وبالرجوع إلى جريمة التسول فإن المشرع عاقب عليها في الفصل 326 كل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بالإمكان الحصول عليها بالعمل أو بأية وسيلة مشروعة لكنه اعتاد ممارسة التسول، بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر، ليأتي في الفصل 327 ويشدد العقوبة حيث رفعها إلى الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة في حق كل متسول ولو كان ذا عاهة أو معدوما لكنه استعمل وسائل التهديد أو التظاهر بالمرض أو تعود اصطحاب طفل من غير فروعه أو التسول جماعة.
ويتم استغلال الأطفال في هذه الآفة الاجتماعية المقلقة سواء من طرف ذويهم أو أشخاص منظمين في إطار شبكات متخصصة تقوم بتأطيرهم وتوزيعهم على مناطق معينة كأبواب المساجد والمقاهي وأماكن عمومية.
وشدد المشرع المغربي العقوبة في الفصل 330 وعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى سنتين الأب أو الأم أو المقدم أو الكافل أو المستغل للأطفال في عملية التسول وكل من له سلطة على طفل إذا سلمه دون مقابل أو بمقابل إلى متشرد أو متسول. ثم يضيف المشرع جريمة خاصة تتعلق بفعل أو أفعال العنف دون تحديد طبيعتها والتي يقوم بها المتشرد بل أنه عاقب على محاولتها وحدد لها عقوبة بين سنة و5 سنوات.
وقال المحامي بهيئة القنيطرة، الأستاذ عبد العالي الصافي، إن التسول انتقل من ممارسات معزولة ومتحكم فيها، إلى ظاهرة تضر بالمجتمع وبنيانه وتضرب الاقتصاد في مناحي عدة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصبح بديلا للحماية الاجتماعية التي هي اختصاص حصري للدولة ولا يمكن أن تحل شيفرة التوزيع غير العادل للثروة وما تصاحبه من مشاكل سوسيو- اقتصادية كالبطالة وضرب القدرة الشرائية للمواطن البسيط والفقر والهشاشة التي تعيشها فئات واسعة من المجتمع.
70 في المئة من المغاربة المشاركين في الاستشارة الوطنية يؤيدون منع هذه الظاهرة
ويرى أحمد رضا الشامي، رئيس المجلس أن هناك “رهانا كبيرا على ورش الحماية الاجتماعية، في حكامته واستهدافه، لاسيما فيما يتعلق بتعميم التغطية الصحية وتقديم الدعم المباشر للمعوزين، للقضاء على مختلف مصادر الهشاشة الاجتماعية، بما فيها العوامل التي قد تؤدي إلى التسول”.
وأبرز الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، علي شعباني، أن هذه الظاهرة الاجتماعية أصبحت ممارسة خطيرة وفي تطور مستمر في المغرب، فكل فئات المجتمع، من جميع الأعمار ومن الجنسين، تمتهنها على حد سواء، مشيرا إلى أنها تعرف تزايدا لأسباب وعوامل مختلفة ومتعددة، وأنها من وجهة نظر اجتماعية، ومنذ فترة طويلة، هي حرفة تدر دخلا هاما لا يتطلب شهادات أو جهدا.
وكشف البحث الوطني حول التسول الذي قامت به وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، منذ انطلاق إستراتيجيتها الوطنية لمحاربة التسول سنة 2007، كشف عن وجود حوالي 195 ألف و950 متسول على المستوى الوطني، والذي مكن من الوقوف على الأسباب الحقيقية والمتعددة للتعاطي مع الظاهرة، وكذا تحديد الأساليب المختلفة التي يستعملها المتسولون بهدف استدرار عطف الناس، حيث أشار البحث إلى أن 51.8 في المئة من هؤلاء يمارسون التسول بسبب الفقر و12.7 في المئة بسبب الإعاقة و10.8 في المئة لأسباب صحية و24.7 في المئة لأسباب أخرى، كما مكن كذلك من الوقوف على أن 62.4 في المئة يمارسون التسول بطريقة احترافية، مما شجع على البحث عن الأساليب المستعملة في هذا المجال لاستدرار عطف الناس، حيث تم الوقوف على أساليب مختلفة كالتسول المستغل للأطفال وللأشخاص المسنين وللأشخاص في وضعية إعاقة، إضافة إلى اصطناع بعض الإعاقات.
وبالرغم من غياب إحصائيات دقيقة محينة حول الظاهرة، فإن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أشار إلى أن التمثلات الفردية والجماعية المسنودة ببعض البحوث الميدانية “تذهب في اتجاه تزايُد هذه الممارسة واستفحالها، لاسيما بعد الأزمة الصحية لـ”كوفيد 19″ وتداعياتِها المتواصلة على الاقتصاد والشغل والقدرة الشرائية، واتساع قاعدة الفقر والهشاشة، حيث انضاف أكثر من 3 ملايين شخص إلى الفئة الفقيرة والهشة”.
وحسب النتائج التي توصل إليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فإن هناك عوامل أخرى من شأنها أن تزج بالأشخاص في آفة التسول، مثل التخلي الأسري، والطلاق أو فقدان المعيل بالنسبة إلى النساء، وتدني المستوى الدراسي والتكويني، وتراجع قيم التضامن العائلي، والوضعية الصحية (الصحة البدنية والعقلية، والإعاقة).
وبالنسبة إلى المقاربة القانونية فهي مهمة جدا والقانون الحالي يسعف للضرب على ممتهني التسول والتشرد، حسب المحامي عبدالعالي الصافي، بل يمكن الاستعانة أيضا بقانون الاتجار في البشر متى توفرت موجبات تطبيقه في حالة الشبكات المنظمة التي قد تستغل الهشاشة التي تعيشها بعض الفئات العمرية وتحديدا الأطفال وكبار السن أو بعض الفئات الأخرى من المجتمع كالنساء والأشخاص ذوي العزائم، لكن دون المقاربتين الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن القضاء على هذه الظاهرة المستفحلة.
ونوه المجلس بأهمية الجهود المبذولة من قبل السلطات العمومية المعنية بالتصدي لظاهرة التسول، وفق مقاربة تجمع بين البعد الوقائي والتكفل الاجتماعي والتدخل الزجري القضائي؛ غير أنه سجل محدودية هذه الجهود من حيث الفعالية والنجاعة والنتائج، بسبب صعوبة تحديد واستهداف الفئات المعنية بالتسول وتعدد وتشتت برامج الدعم الاجتماعي ومحاربة الفقر وضعف الموارد المالية والبشرية المرصودة لها.
وفي العام الماضي أصدرت محكمة مغربية، حكما بالسجن النافذ في حق امرأة تمتهن التسوّل وذلك بتهمة النصب والاحتيال، بعدما تم الكشف عن امتلاكها ثروة مالية قيّمة وعدة عقارات، بعدما تم إيقافها خلال حملة أمنية بمدينة أكادير جنوب البلاد، استهدفت عددا من ممتهني التسول، حيث كانت تتواجد المعنية بالأمر قرب مسجد لبنان بأكادير.
وأثارت قصة المرأة التي أطلق عليها اسم “المتسولة الثرية” جدلا واسعا في المغرب، خاصة بعدما تم الكشف عن امتلاكها منزلين وعقارات في حي راق وأرصدة بنكية، كما أنها تحمل الجنسيتين المغربية والسويسرية.
وانطلاقا من التشخيص الذي قام به يرى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لظاهرة التسول في المغرب، فإن القضاء على هذه الظاهرة يقتضي التنزيل المتجانس والمُنسق لجملة من الإجراءات الرامية إلى تحقيق هدفين؛ هما ضمان احترام مقتضيات الدستور، لاسيما في ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأشخاص في وضعية تسول، دون أي تمييز أو وصم، والهدف الثاني هو ضمان احترام النظام العام.
وفي هذا الصدد أوصى المجلس الذي يقوم بمهام استشارية حول الاختيارات التنموية الكبرى والسياسات العمومية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتنمية المستدامة والجهوية المتقدمة، بالقضاء على جميع أشكال تسول الأطفال، من خلال تعزيز آليات حماية الطفولة على صعيد المجالات الترابية (وحدات حماية الطفولة) على مستوى التنظيم الجيد، وتوفير الموارد البشرية والمادية الضرورية، وكذا عبر تشديد العقوبات في حق مُسْتغلي الأطفال والمتاجرين بهم في التسول.
ومن ضمن التوصيات التي قدمها المجلس قيام الجهات المسؤولة بحماية الأشخاص في وضعية هشاشة من الاستغلال في التسول، من خلال تشديد العقوبات على الممارسات التي يتم ارتكابها تحت غطاء التسول، طبقا لمقتضيات القانون الجنائي، لاسيما ضد الشبكات الإجرامية التي تستغل النساء والمُسنين والأشخاص في وضعية إعاقة، والنهوض بالسياسات المتعلقة بحماية ومساعدة الأشخاص في وضعية إعاقة والأشخاص المسنين، والإدماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين المُعرضين لممارسة التسول.
وأظهرت نتائج استشارة وطنية أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن 70 في المئة من المشاركين في الاستشارة يؤيدون منع هذه الظاهرة.
ووفق نتائج الاستشارة التي تم إنجازها عبر المنصة التفاعلية للمجلس “أشارك”، فإن 99 في المئة من المشاركات والمشاركين يَعتبرون التسول “ظاهرة اجتماعية خطيرة”، ويربطون أسباب هذه الخطورة بكون التسول يؤثر على اتساع رقعة الفقر ويمس كرامة الشخص ويهدد النظام العام وينطوي على مخاطر الاستغلال من طرف الشبكات الإجرامية.
وحسب نتائج البحث الوطني الذي أنجز سنة 2007، فإن الفقر يأتي على رأس الأسباب التي صرّح المشاركون في البحث بأنها دفعتهم إلى التسول، بنسبة 51.8 في المئة، تليه الإعاقة بنسبة 12.7 في المئة، ثم المرض بنسبة 10.8 في المئة، فالإكراه على التسول بنسبة 4.70 في المئة.