في شهر رمضان من كل سنة يقترح التلفزيون الجزائري بقنواته الخاصة قبل العامة على الجزائريين جزائر متخيلة، يحاول تسويقها لهم من خلال المسلسلات التي تجد رواجا كبيرا خلال شهر الصيام. جزائر يكثر فيها العنف واستهلاك المخدرات والكلام عنها لحد الابتذال. ناهيك عن صور الاعتداءات الجسدية على المرأة داخل ديكور تسيطر داخله الفيلات والسيارات الفخمة واللباس الأنيق لشخصيات المسلسلات التي يحتل فيها «رجل الأعمال» في القطاع الخاص مركز الصدارة، «رجل أعمال» يقوم بأكثر من نشاط منها العلني ومنها المخفي، فهو يبني السكنات ويبيع السيارات، في الوقت نفسه الذي يتاجر فيه بالمخدرات ويبيض الأموال التي تدرها تجاراته المتنوعة عن طريق مشاريع البناء الوهمية.
مشاريع يسيرها عن طريق رجاله الأقرب- بمن فيهم أبناؤه وافراد عائلته -على شكل عصابات مسلحة، تبقى تحت إمرته للتدخل في فض النزاعات التي يكون طرفا فيها. في تداخل واضح بين الفضاء العائلي الخاص الذي تبرزه صالونات الفيلات الفخمة التي يكثر فيها الحديث عن الصفقات وتصفية الحسابات. زيادة على تلك المكاتب الفخمة التي تتحكم فيها السكرتيرة الجميلة، التي عادة ما لا تكتفي بوظيفتها المعلنة، بل تزيد عنها لتتدخل في أدق تفاصيل حياة العائلة، وتسيير النزاعات بين أفرادها، خاصة عندما تظهر للسطح الحياة الخاصة «للمعلم « الذي عادة ما يكون متزوجا أكثر من مرة وبأولاد في الحالتين، لم يعد من الضروري أن تكون هذه الزوجة من وهران، أو مقيمة في هذه المدينة المنفتحة التي يحبها الجزائري ويخاف منها، كما كان يحصل في السيناريو الجزائري الكلاسيكي.
أصبح فيه من المألوف أن يكون الإنتاج السينمائي في فرنسا أكثر من الجزائر، حتى إن تعلق الأمر بمواضيع جزائرية من قبل جزائريين فضلوا الهجرة الفنية القسرية على الموت البطيء داخل بلدهم
بعد أن ولى زمن الإنتاج التلفزيون الجزائري الذي ساد في السبعينيات ولغاية الثمانينيات، الذي كان يحتل فيه المدير العام في القطاع العمومي والإطار المسير، موقع الشخصية المركزية في العمل الدرامي، بنمط حياته البورجوازي الصغير وأسلوبه في الحديث بالفرنسية، وبعده عن المجتمع التقليدي الذي يريد تغييره، حتى وهو يتنكر لوسطه العائلي التقليدي الذي انحدر منه، ويرفض قبول كل ما يأتي منه من علاقات وأسلوب عيش، لتظهر عليه في بعض الأحيان علامات فساد قليلة ومتحكم فيها إلى غاية تلك الفترة، ليتغلب ديكور الشقة على الفيلا الطاغي الآن والسيارة الصغيرة – سوناكوم – على السيارة الفارهة الألمانية، التي تسيطر على المشهد في الدراما المتخيلة المقترحة على الجزائريين هذه الأيام. في وقت زاد فيه منسوب الاستقطاب الاجتماعي بين فئات قليلة مستفيدة من التحولات الاقتصادية، وأغلبية من الجزائريين، يباع لهم هذا الوهم الذي يتكفل التلفزيون الجزائري بالترويج له على الطريقة التركية التي سادت لسنوات.. لنكون بذلك أمام تطور احتل فيه المنتج الدرامي الوطني مكان الدراما التركية، التي كانت أكثر جرأة في الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، كما عبرت عنه أكثر من مرة، ظاهرة الحمل خارج الزواج، التي تكثر في الدراما التركية. في وقت ما زال المنتج الجزائري يفضل الترويج للمخدرات والعنف، بعيدا عن الجنس حتى عندما يتعلق الأمر بقبلات بسيطة بين الرجل والمرأة، ما زالت ممنوعة كمشهد تعبيرا عن العمق المحافظ لجزء مهم من الجمهور الجزائري، الذي يكون قد فرض على المخرج في أحد المسلسلات هذه السنة، منع مشهد احتضان الأب لابنته – كبيرة في السن – التي لم يرها منذ سنوات طويلة! حسب السيناريو الذي يبقى في بعض الأحيان غير متحكم فيه وفي شخصياته، التي تتكلم لغة بعيدة جدا عن وسطها ومستواها التعليمي، الذي تقدم به للمشاهد. عكس الحالات التي يتم فيها اللجوء الى دارجة مهذبة قريبة من المواطنين بمختلف لهجاتهم، تزيد عادة في قوة إقناع السيناريو وتحسن في مستوى أداء الممثلين.
في وقت نلاحظ فيه تحسنا في التمثيل الذي أبان عنه جيل جديد من الممثلين والممثلات، يمكن الاعتماد عليهم إن منحوا الفرص المقبولة، في تطوير الإنتاج الدرامي الجزائري، الذي ما زال يشكو من معيقات كثيرة مرتبطة بغياب صناعة سينمائية حقيقية، ما زال البلد لا يتوفر على شروط انطلاقها، كما أكد على ذلك الكثير من المهنيين في عدة مناسبات، منها ما هو متعلق بغياب شبكة التوزيع بما يفترضه من قاعات عرض وترويج واستوديوهات إنتاج محترفة، بما يلزمها هنا كذلك من مهن عديدة وتخصصات لا يتم التكوين فيها في الجزائر، ولا يسمح الإنتاج السينمائي والتلفزيوني القليل من التدريب عليها في الميدان. ناهيك عن أزمة التمويل المالي، التي وجدت شبه حل مغلوط هذه السنوات عن طريق تغول للإشهار الذي تقوم به بعض الصناعات الرائجة في الجزائر كالصناعات الخفيفة والتحويلية في قطاع التغذية، التي طغت هذه السنة، ما جعل السلطات العمومية ممثلة في وزارة الإعلام وسلطة الضبط تتدخل للتنبيه إلى خطورة الوضع على العمل الفني في حد ذاته، وذوق المواطن المُهدر، بالإضافة بالطبع للعائق الكبير الذي ما زالت تمثله الحياة الثقافية الراكدة في البلد، التي لا تساعد على ظهور الإنتاج الأدبي والفني القادر على إسناد العمل السينمائي، وخلق الفضاءات الثقافية المتنوعة التي يزدهر داخلها نقاش المبدعين، وهم ينتجون ويلحنون ويكتبون السيناريوهات التي يتطلبها العمل السينمائي. بعيدا عن كل رقابة بيروقراطية مهما كان تبريرها، تعلق الأمر بالدفاع عن مصالح البلد العليا، أو حماية التاريخ الوطني ورموزه الوطنية، تبقى في الغالب من دون تحديد يتم الإعلان عنها بصيغة فضفاضة يكون الهدف منها الزيادة في حدة الرقابة، وخلق المزيد من العوائق البيروقراطية أمام المنتجين وأبناء وبنات المهنة. لتطرح من جديد مسألة حرية العمل الفني في الجزائر، التي تزيد انغلاقا عن نفسها، كما عبرت عنها القوانين الجديدة المقترحة لتنظيم قطاع السمعي البصري، التي تخوف منها الكثير من السينمائيين. في وقت أصبح فيه من المألوف أن يكون الإنتاج السينمائي في فرنسا أكثر من الجزائر، حتى إن تعلق الأمر بمواضيع جزائرية من قبل جزائريين فضلوا هذا النوع من الهجرة الفنية القسرية على الموت البطيء داخل بلدهم.