رمضان، “شهر الصبر” الذي يفترض أن ينعكس ارتفاع منسوب التعبّد فيه وانتشار مظاهر التدين على سلوك الأفراد وتصرفاتهم وأقوالهم، لكن الشهر الكريم انزاح في السنوات القليلة الماضية عن أبرز مقاصده مع كثرة التنازع والخصام وتبادل الشتائم والشجار إلى درجة ارتكاب جرائم قتل فظيعة أحيانا بمبرر “الصيام”، أو ما يُعرف لدى المغاربة بـ“التّرْمْضينة” وهي ظاهرة مرضية تنسب زورا إلى شهر الصيام.
تشهد المدن المغربية خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان تبادل عبارات السبّ والشتم وحالات عنف مختلفة الخطورة، كما هو الحال بالنسبة إلى وجدة والعرائش وأغادير والدار البيضاء على سبيل المثال لا الحصر، والتي ربطها عدد من المتتبعين بما بات يسمى عند الكثيرين بـ”الترمضينة”.
و”الترمضينة” مفردة مستمدة من الثقافة الشعبية وهي سلوك عدواني عنيف خلال شهر رمضان، يتسبب في انفلات الأعصاب، وفقدان السيطرة على النفس وقد يتطور إلى عنف جسدي وجرائم قتل، لأسباب بسيطة.
ويربط البعض “الترمضينة” بردات الفعل العصبية وفقدان السيطرة على الانفعالات والتصرفات بالصيام بسبب الجوع أو الإمساك عن التدخين والأكل، وهو ما يرفض الكثير من المواطنين ربطه بالشهر الفضيل، ويؤكدون براءة الصيام من كل سلوك شائن يراه البعض صفة لصيقة بأصحابها.
ومع تزايد مظاهر العنف بشكل ملحوظ خلال شهر رمضان، في جميع مناطق المغرب وبصورة أكبر في المدن الكبرى، فإن عددا من الباحثين الاجتماعيين يشددون على أن ممارسة العنف لا ترتبط بوقت أو شهر محدد، ويؤكدون على أن المجتمع يشهد مثل تلك السلوكيات طيلة أيام السنة.
ويرى خبراء في علم النفس الاجتماعي أن “الترمضينة” ظاهرة يعلق عليها مجموعة من المجرمين والمنحرفين والجانحين سلوكياتهم العنيفة، وأن الغضب والانفعال والسلوك العدواني بشكل عام تصرفات دائمة وممتدة في الزمان لا تقتصر على شهر رمضان أو غيره، علما أنها قد تكون مناسباتية وظرفية عند البعض، لكنها قد تتسم بطابع الاعتيادية عند البعض الآخر فتظهر للعلن بشكل سريع متى اندلع أيّ خلاف قد يكون بسيطا في البداية، لكن سرعان ما تتطور حدته وقد تترتب عليه تبعات وعواقب وخيمة.
وقال سعيدالدين العثماني الطبيب النفساني، في حوار صحفي، أنه لدينا في رمضان ملاحظة مرتبطة بالصحة النفسية وهي القلق، فأحيانا في نهار رمضان نصادف أناسا يتصرفون في مواقف معينة بالقلق والغضب وردود الفعل وأحيانا الصياح، والكثير من الناس يجيبون بـ”اتركوه فإنه صائم، بمعنى أن بعض الناس لهم فكرة أن الصوم يبيح القلق الزائد عن الحد، وهذا تصور غير سليم”.
وأضاف “بالعكس الصوم في عمقه يجب أن يربّي على الهدوء، فرمضان شهر الصبر في المواقف التي تكون محرجة أحيانا، وتكون مستفزة، ونصبر على أمور قد تقع لنا بدل رد الفعل السريع، وهذا ممكن بالنسبة إلى الصائم، لكننا نتساءل لماذا الكثير من الناس تقع لهم هذه ‘الترمضينة’ والقلق الزائد وردود الفعل المبالغ فيها في نهار رمضان”.
من جهته صنف جواد مبروكي طبیب علم النفس التْرمْضینة بأنها مرض نفسي خطیر یجب علاجه قبل شھر الصیام، حيث نصادف كل عام في شھر الصوم هذه الظاھرة التي تحدث في الأسواق والأحیاء والمنازل والإدارات وتكتسب زخما متزایدا بشكل خطیر من سنة إلى أخرى.
واعتبر مبروكي، في تصريح لـه، أن “التْرمْضینة” غضب حاد بشكل اندفاعي لا تمكن السیطرة علیه ویصاحبه عدوان لفظي وجسدي، وفي بعض الأحیان یكون ھذا الغضب مسؤولاً عن الاعتداءات والإصابات، والحوادث المنزلیة التي قد تصل إلى حالات ممیتة.
تدني مستوى السكر في الدم والاختلال في نمط العيش اليومي في رمضان يساهمان في زيادة التوتر والقلق لدى الفرد
وتتطور ظاهرة “الترمضينة ” من انفعال شديد وغضب إلى عنف لفضي أو جسدي قد تستعمل فيه أحيانا أسلحة بيضاء، كما قد يؤدي إلى جرائم قتل خاصة قبل موعد آذان المغرب.
وأكد العثماني أنه تم إنجاز دراسة في إطار مؤسسة محمد السادس للأبحاث العلمية والطبية حول رمضان، بكلية الطب بالدار البيضاء، وعن طريق دراسة عينة من الصائمين في نهار رمضان، والمقارنة بكيف كانوا يتصرفون قبل رمضان، فوجدنا بالفعل أن نسبة القلق والغضب وردود الفعل السلبية تزيد في رمضان، لكنها غير مرتبطة بالصوم وبرمضان، بل مرتبطة بثلاثة عوامل أساسية، العامل الأول هو النوم، “حيث أن الناس لا ينامون في رمضان النوم الكافي، وهذا يؤثر على الحالة النفسية في النهار، والسبب الثاني هو إدمان القهوة، والسبب الثالث، هو عند الناس المدخنين الذين يجدون أنفسهم في النهار دون تدخين.
وحسب مدير المرصد المغربي للمخدرات والإدمان والعضو في اللجنة الوطنية للمخدرات جلال توفيق فإن ارتفاع منسوب التوتر العصبي المفضي إلى بعض الممارسات العنيفة لدى المدمنين خلال شهر رمضان، يعود إلى عدة أسباب من أبرزها الإقلاع عن التدخين أو التوقف عن استهلاك بعض أنواع المخدرات وعلى رأسها الحشيش.
وأضاف توفيق أن تدني مستوى السكر في الدم والاختلال في نمط العيش اليومي خلال شهر رمضان يساهمان بدورهما في زيادة التوتر والقلق لدى الفرد، وبالتالي ظهور سلوكيات تدخل في خانة ما يعرف بـ”الترمضينة”.
تدني مستوى السكر في الدم والاختلال في نمط العيش اليومي في رمضان يساهمان في زيادة التوتر والقلق لدى الفرد
ومن بين أهم الأسباب التي تؤدي إلى الانفعال وتزايد سرعة الغضب خلال ساعات الصيام، الاختلالات في نمط النوم خلال الليل، والتي تتسبب في اضطرابات نفسية ناجمة عن عدم إفراز الجسم لهرمون “الميلاتونين” الذي يساعد على تنظيم دورة النوم لدى الإنسان.
وكشف عدد من الأبحاث والدراسات الطبية أن عدم حصول الشخص على كفايته من النوم قد يؤثر بشكل مباشر على مزاجه خلال النهار، مما يزيد من مستوى التوتر والقلق النفسي لديه.
ويعتبر الخبير المغربي في مجال مكافحة المخدرات أن شهر رمضان هو أفضل فرصة بالنسبة إلى المدمنين من أجل الإقلاع النهائي عن تدخين السجائر والتوقف عن تعاطي المخدرات، ويشدد على ضرورة الحفاظ على دورة النوم العادية، وعدم السهر إلى ساعات متأخرة، لتجب الشعور بالتعب والتوتر والغضب أثناء النهار.
وتتنافى “الترمضينة” مع المقاصد الشرعية خلال هذا الشهر الكريم الموصوف بشهر الغفران والأجر والثواب وفعل الخيرات، حيث أكد الفقهاء أن العنف في السلوك والتصرفات أضحت تدب في المجتمع الإسلامي بشكل لافت خلال شهر رمضان في السنوات الأخيرة، ولا يمكن ربطها بالشهر الكريم، نظرا إلى أن هذه السلوكيات أضحت شائعة في مختلف الأشهر الأخرى للسنة. فقدسية هذا الشهر هي التي تجعلها مرفوضة في المجتمع وخارجة عن سياق الطقوس الدينية المتماهية مع المقاصد الشرعية لهذا الشهر المبارك.
وأكد عبدالمجيد محب أستاذ الفقه وأصوله بمؤسسة دار الحديث الحسنية أن هذا الشهر يبتغي منه المسلم الغفران والتوبة، وذلك من خلال الامتثال لأوامر الله ونواهيه، مؤكدا أن السلوكيات المرتبطة بما يسمى بـ“الترمضينة” تنافي المقاصد الشرعية لهذا الشهر الكريم، التي تتجلى أساسا في تزكية النفوس وترويضها على الصبر وتهذيب السلوك وتخليق الحياة العامة.
وأبرز عبد المجيد محب أن تعاليم الدين الحنيف تدعو إلى الالتزام في هذا الشهر والتقرب بالطاعات إلى الله عز وجل والتسامح والتآخي وفعل الخيرات، وهو ما ورد في حديث الرسول الكريم حينما قال “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ”، مستحضرا بركة وجزاء هذا الشهر المبارك في قول النبي الكريم ” قدْ جاءَكمْ شهرُ رمضانَ ، شهرٌ مباركٌ افترضَ اللهُ عليكُمْ صيامَهُ، يفتحُ فيهِ أبوابُ الجنةِ ، ويغلقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتغلُّ فيهِ الشياطينُ، فيهِ ليلةٌ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ ، مَنْ حُرِمَ خيرَها فقدْ حرِمَ”.
وتلاحظ ھذه الظاهرة على مدار العام بشكل أقل إثارة لأن الأشخاص الذین یعانون من ھذه المتلازمة عادة ما یلجؤون، خارج فترة الصیام، إلى المھدئات العقلیة والمخدرات المختلفة مثل الكحول والحشیش والكوكایین وغیرھا من المنتجات ذات التأثیر النفساني والتي تُقلل من شدة أعراض متلازمة “التْرمْضینة” ومن ھنا ندرتھا خارج شھر الصیام.
وأسباب هذه الظاهرة خلال شھر الصیام متعددة، حسب طبيب علم النفس جواد مبروكي، السلوكيات الشخصیة المعادیة للمجتمع، والاكتئاب المزمن، واضطراب المزاج ثنائي القطب (الغضب المفرط والمتھور والمتكرر غالباً ما یكون مؤشراً على اضطراب المزاج)، وإدمان المخدرات مع متلازمة الإقلاع المفاجئ عن جمیع المؤثرات مثل تلك المذكورة أعلاه، وعادة ما یتم تناولھا.
ويقول مبروكي في تصريح لـه إن علاج “الترمضينة” یتطلب رعایة نفسیة داخل العیادة أو في المستشفى حسب كل حالة، وأحسن شيء الوقایة إذ تكشف متلازمة “التْرمْضینة” عن تطور أمراض نفسیة خطیرة ومرتبطة بإدمان المخدرات التي تخفي الأعراض المرضیة، وغالبًا ما یكون الشخص المصاب غیر مدرك لمرضه وإدمانه للمخدرات، ومن واجب المقربین منه دعمه ومرافقته لاستشارة الطبیب النفسي من أجل التشخیص الدقیق والبدء في العلاج.
ويؤكد المختصون أن “الترمضينة” مصطلح وظاهرة مجتمعية وحجة من لا حجة له لتبرر ممارسات غير مقبولة، لأشخاص سريعي الغضب والانفعال والذين ينشرون أجواء غير صحية في الشارع أو داخل منازلهم، طيلة أشهر السنة.