السرطان، تلك الكلمة المحظورة الملْعونة منذ صغري، لا أدري كيف وصلتُ لقناعتي هذه، ولا أدري كيف رَسخت في ذهني، حتى خصصت لها حجرتها الخاصة في عقلي، وأوصدت عليها الأبواب، عزلتُها عن كل محيطها، ولم أطرق أبوابها يوماً. واعتدت أن أسيرَ كما يسير الجميع فلا أذكرها. الحقيقة أنّي أخافُ ذكرها، كي لا تُصيبني لعنتُها، تلك اللعنة المزعومة، فعندما يُصاب أحدهم بالسرطان، كنت أسمعهم يقولون بحزنٍ لا يخلو من الشفقة، “يا حرام، معه الخبيث”، أو معه من ذاك المرض كما عهدتهم ينعتونه.
بتُ أخشى ذكرَ اسمه، ولا أتطرق له، وكأنّه مرض معدٍ بمجرد التفَوْه بِلفظته، فيذكرونه تلميحاً لا تصريحاً، ويبدؤون بذكر محاسن الشخص، في وضعٍ كأنه مع الأموات أضحى، وأنّه ليس بالمريض فقط، بل هو الذي يرقدُ مُنتظراً خروج روحه لا أكثر. فرُسِمَ في ذهني أن السرطان لا شفاء منه، وأنه إذ ما دخل جسم الإنسان لا يغادره، وإن غاب عنه فلا بدَّ له من العودة، وأنَّ النهاية الحتمية لهذا المرض الموت، والنجاة منه من المحال، والتخلص منه طريقٌ محفوف بالألم الذي يوصف. هذا في حال التخلص منه بأعجوبة، وزمن العجائب قد انتهى، فالشفاء منه، حبلٌ مقطوعٌ من الأمل. هكذا كنت أرى السرطان، أراه الوحش المُخيف المُسيطر، أراهُ قارباً مثقوباً لا نجاة منه، ولا نجدة، مما انعكس على تعاملي معه، وحمدت الله أنه لا يُذكر حولي إلّا في مجالس ذكر قصص الناس وأخبارهم.
شعرت بأن مريض السرطان قد تُتعبه معاملة الناس أكثر من المرض بعينه، تلك نظرات الشفقة التي تلوح في الأجواء، تدفع المريض للتفكير في مُواجهة الناس أكثر من مواجهة المرض.
إلى أن جاء اليوم الذي لا مجال فيه من الفرارِ من السرطان، عندما أراه صارَ قريباً حولي، في مُحيطي، وعندما أدركتُ أن القصص التي تجنبتُ سماعها يوماً، ستكون اليومَ بقربي، وسأعيشها مع أشخاصٍ تحلو بهم الحياة. وأن السرطان الذي أخافني اسمه منذ زمن، وكنت أهربُ من حديثه، أصبح زائري الغير مرغوبٍ فيه، عندها صارَ من الضروري أن أتعامل معه ووجوده كأنه أمراً عادياً جداً، وأن أتَقبَّلَ زياراته الغير لطيفة.
وفجأةً رأيتُ كُلَ الأفكارِ السابقةِ المُخيفةِ تتلاشى، واحدة تلو الأخرى، ذلك لأنه يصعُبُ علينا تخيّل أي مكروهٍ يُصيبني عند اكتشافي للورم السرطاني السنة الماضية ، وربما أيضاً، لأنّ الأمورَ عن بعدٍ تكونُ أكثر إخافة، مما هي عليه في الحقيقة، وما إن اقتربت منّا نرى حقيقة حجمها.
وسعدتُ بذاك الاستنتاج، لأنه هو الوحيد الذي يمدُنا جميعاً بالقوة اللازمة لتجنب السقوط في مُستنقع اليأس، فتكون قوتنا معيناً لنا ولمن نحب. نخفِفُ الألم عنا، ولا أحد يستطيع تقديم المُساعدة، وفي الحقيقة إن كنت عاجزة عن تقديم المساعدة او النصائح لمواجهة هذا المرض الخبيث ، الذي أصابني و لم اكن مستعدة لمواجته.
فعندما نرى مشاعر الخوف الممزوج بالقوة، قد رُسمت خارطةً في ملامحي، يُصبح التفكير بكل ما كان مُعتقدٍ من قبل من المُحرمات. نخجل من أنفسنا إذ ما خطر في بالنا فكرة استسلام أو ضعف، خُصوصاً عندما نرى الأمل يبرق من أعيني، وعندما نراها تغلب الوجع، اعلم أنَّ الألم كبير لكن الأمل هو الأكبر، واثقة أن الانتصار دائماً للخير. وما إن ارى صمودي يسندني، ارى حالي يتقدم و لا يتراجع، ادرك ساعتها أن كل ما اعتقدته سابقاً، ليس سوى خرافاتٍ، توارثناها جاهلينَ بما حملنا من أفكار، مَخاوف نسجتها عجائزٌ لم تَخْبر التطور والتقدم الطبي، ومن لم يملكوا ثقافة الأمل، تلك الثقافة التي يجب أن تكبر معنا، نزرعها في أرواح أبنائنا؛ ليكونوا قادرين على مواجهة كل ما يصفعهم، وليتمكنوا من رؤية ما هو جميل قبل التذمر والاستسلام.
شعرت بأن مريض السرطان قد تُتعبه معاملة الناس أكثر من المرض بعينه، تلك نظرات الشفقة التي تلوح في الأجواء، تدفعني للتفكير في مُواجهة الناس أكثر من مواجهة المرض، والتفكير بوسيلةٍ لرفض هذه النظرات الجارحة، ولا اجد أمامي سوى التزوّد بالقوة. تلك القوة التي إن لم تستطع ان تدعمني، يصبح من الضروري مواجهة مصيري بقوة و عزيمة و تحدي .
وتأكدت أن لمريض السرطان حياةٌ يُتابعها، وأن حياتي لا تتوقف ولا تتغير لحظة معرفتي بالإصابة، وأنَّ ألم الجرعات الكيماوية لا يمنعني من مواصلة الفرح، وأن الشَعَرَ الذي افقده لا يمنعني من التَجمُّل وحتى الازدياد جمالاً.
نعم، تلك القوة التي تنبع من الداخل، تلك التي لا نستطيع أن نُعطيها للمريض كَحُقنةٍ أو حبةِ دواء، هي القوة التي مكنتني من المواجهة كل يوم. القوة التي اعطتني الأمل والطاقة للذهاب نحو الجرعة المُؤلمة. وأنا أرى كل هذا، كان لا بدَّ لي من أن أتجاوب مع ما يحدث، وأن أُصْلِحَ الخرابات الصدئة، وأن أتخلص من شوائب الماء العكرة، حينها قررت أن أفتح كلَ الأبوابِ التي كانت موصده على السرطان، وقررت أن أُصادقه، أُصافحه، وأرى منه جانباً جميلاً، أرى فيه القدرة على تغير نظرتنا للحياة، وأرى فيه جمال التحدي.
ذاك التحدي، الذي ندخله رغماً عنّا، ومهما رفضنا لا هروب من المواجهة، المواجهة العظيمة، التي تُظهرُ جمال أرواحنا، تُظهِرُ زهورَ حدائق قلوبنا وجمل ألوانها، وآمنت أنّ هكذا أحداث وهكذا تحديات، وحدها من تجعلنا نثبتُ أنفسنا أمام أنفسنا، تُفجّرُ فينا طاقاتنا المخزونة، وهي الوحيدة القادرة على استخلاص الأمل منّا عندما لا نرى سوى الألم.
فالسرطان لا يُخيفني اليوم، قد حررته من كل قيوده، بات عادياً جداً، تغلبت عليه بعدما اكتشفته في أول ايام زيارته لجسدي ، وصرتُ أراه صديقاً قوياً، يُريد البقاء لكنه اختار طريق التطفل و المغادرة .
قد يسلب ارواح المرضى لأني رأيت السرطان لا يتمكن إلّا ممن ضعفت روحهم، ممن لم يرووا زهور حدائقهم فذبلت، فَما السرطان إلّا منافسة وتحدي، نكسب فيها عندما نُعيد السرطان عارياً وحيداً إلى بيته، ونحن نمضي في حياتنا لا شيء يُحزننا، أقوى مما كنّا، خُضنا تجربةً منحتنا الثقة لمواجهة ما هو أكبر.