إلى أين سيصل التصعيد بين الجزائر والمغرب؟
مستوى جديد وصله التصعيد السياسي والإعلامي بين الجزائر والمغرب الأسبوع الماضي، بعد الإعلان عن افتتاح مكتب لما سمي بجمهورية الريف المغربية، في العاصمة الجزائرية. قرار يقول البعض إنه جاء للرد، ولو بشكل متأخر، عن تصريحات مغربية عديدة حول تأييد المغرب لحق تقرير مصير «الشعب القبائلي» في الجزائر، تمت في الأمم المتحدة وفي منابر سياسية دولية متنوعة، من قبل ممثلين رسميين للدولة المغربية، منذ سنوات خلت على ما اعتبروه في حينها ردا على الموقف الجزائري المؤيد للصحراويين.
لنكون بذلك أمام مستوى جديد من التصعيد، الذي وصله ملف الخلاف الجزائري المغربي، الذي انطلق قبل بداية الصراع حول ملف الصحراء في 1975، عكس ما يعتقده الكثير. مهما كان التاريخ الذي نأخذه للحديث عن العلاقات المغربية الجزائرية الرسمية، التي لم تخلُ يوما من الحذر والريبة، كحد أدنى، بين نظامين سياسيين مختلفين سياسيا وأيديولوجيا، حتى عندما كانا يمران بفترات علاقات هادئة على السطح، لم تصل يوما إلى ما كان يتمناه الشعبان، اللذان لم يكونا يتصوران أن يصل الأمر إلى اللعب على ما يجمع الشعبين، وكل بلدان الشمال الافريقي، من أواصر عميقة، كما هو حال العمق الأمازيغي، الذي يوحد الشعبين والبلدين، وكل المغرب الكبير، كما تبينه – كمثال فقط ـ هجرة أبناء الريف القديمة لغرب الجزائر، والاحتضان الذي لقته الثورة الجزائرية بين أبناء هذه المنطقة، منذ مرحلة التحضير لحرب التحرير في الجزائر.
لترتفع وتيرة التصعيد في المدة الأخيرة، بعد دخول فاعلين إقليميين ودوليين جدد، بعد الاستقطاب الذي عبّرت عنه مواقف البلدين على المستوى الدولي، نتيجة التطبيع المغربي الإسرائيلي، في وقت عاد فيه نوع من الحيوية للدبلوماسية الجزائرية، بعد نوم عميق خلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة، الذي كان يملك نظريا مؤهلات، للمساهمة في حل هذا الصراع لكنه لم يفعل، فالرجل من مواليد المغرب أصلا ويملك بالتالي علاقات مباشرة مع النخبة المغربية الرسمية والحزبية السياسية، زيادة على اطلاعه على تفاصيل الملف باعتباره كان وزيرا لخارجية الجزائر عند استفحال الصراع في 1975. ليعرف التعاطي مع الملف ركودا خلال فترة طويلة من حكم الرئيس بوتفليقة وقبلها، عندما كانت الجزائر تمر فيها بأزمة أمنية وسياسية لم يتم فيها تحريك هذا الملف، الذي تغافل عنه العالم ولم يعره اهتماما كبيرا، قد يكون ساعد على استفحاله، كما يبرز من خلال بقائه، دون حل لمدة طويلة. لم تتغير فيها موازين القوى جديا بين أطرافه الأساسية، التي استكانت إلى حالة اللافعل التي ارتضتها للملف. الوضع الذي يكون قد ساعدت عليه قوى دولية عندما تيقنت أن الصراع لن يخرج عن مستوى تصعيد متحكم فيه، أقل من المتوسط، وبقائه من دون ارتدادات دولية وإقليمية، اقتصر على العلاقة المباشرة بين الدولتين – المغرب والجزائر ـ متوسطتي القوة والتأثير الدولي، لم يتجاوزا فيها الإطار الإقليمي المحدود. عرف الطرفان الأساسيان فيه كيف يبعدانه عن الإطار الإقليمي العربي، الذي لم يكن من المتوقع إيجاد حلول داخله، بسبب الشلل الذي كان ولا يزال يميز المنظمة الإقليمية – الجامعة العربية – التي بدأت بعض أطرافها في التعامل بشكل مختلف مع الملف لصالح المغرب، الذي عرف كيف يجند علاقاته العربية الخليجية في المدة الأخيرة، بعد الموقف الأمريكي الذي عبر عنه الرئيس ترامب قَبيل خروجه من البيت الأبيض، وهو يستغله لصالح ملف الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يهمه ويهم إسرائيل بالدرجة الأولى، التي نجحت أخيرا في إيجاد منفذ لها داخل منطقة شمال افريقيا بشكل رسمي، ما يجعلنا نتوقع استمرار المنطق في حالة عودة ترامب للبيت الأبيض في السنة المقبلة، ليكون الجمود هو سيد الموقف في أحسن الفرضيات في حالة فوز بايدن.
عكس الحضور الذي ميز هذا الملف افريقيا بكل الآثار التي تسبب فيها للمغرب، وصلت لحد مقاطعة المنظمة الافريقية لسنوات. ساحة لم يعد إليها هذا البلد إلا في المدة الأخيرة وهو يحاول كسب مواقع كانت قد استغلتها الدبلوماسية الجزائرية في غيابه. كما جسدها انضمام الصحراويين للمنظمة الافريقية الذي يعتبر لحد الآن من أهم الانتصارات الدبلوماسية للقضية.
ملف لم يستغل لحلحلته فترة صعود فاعلين سياسيين رسميين جدد، في البلدين، كما كان الحال عندما وصل الملك محمد السادس للحكم، بدل المغفور له الملك الحسن الثاني الذي كانت علاقاته التاريخية مع الجزائر متدهورة على الدوام – عكس المغفور له محمد الخامس، الذي كان يملك نظرة وتعاملا أكثر إيجابية مع الجزائر. كما بينته حالة الحرب التي اندلعت مباشرة بعد استقلال الجزائر في 63.
حلحلة لم تحصل من قبل الطرف الجزائري عندما وصل الرئيس تبون للحكم في الجزائر، ما كرّس الانطباع الصحيح في الغالب أن ملف الصراع المغربي ـ الجزائري يتجاوز الأفراد، ليرتبط أكثر مع اتجاهات سياسية أثقل، تمس الدول ومصالحها الاستراتيجية، كما تتصورها وتدافع عنها.
في وقت تتكرس فيه مؤشرات غاية في السلبية، كتلك المرتبطة بالزيادة الرهيبة في معدلات التسلح لدى الدولتين ـ على حساب رفاهية الشعبين – التي يمكن أن تغري أطرافا داخل النظامين بالتفكير في استعمال القوة العسكرية ـ ولو بشكل محدود – لتحريك الملف الراكد، منذ عقود، في وقت زاد فيه منسوب التشنج في العلاقات الدولية، كما تبنه حالة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني وقبلها الحرب الروسية الأوكرانية، التي حصلت لأول مرة منذ فترة طويلة على تراب القارة العجوز الجارة المباشرة لمنطقة الشمال الافريقي والمتوسط، الذي تأثرت بلدانه أكثر من غيرها بتداعيات هذه الحرب، نتيجة أزمة الطاقة التي ربحت فيها الجزائر نقاطا كثيرة، لم تترجم حتى الآن لصالح مواقفها مع المغرب في القضايا الخلافية التي ما زالت لصالحه، بعد نجاحه في كسب نقاط لصالح مواقفه من القضية الصحراوية، كما هو حاصل مع إسبانيا وفرنسا وألمانيا. على حساب الموقف الجزائري الذي تقلص المدافعون عنه مع الوقت في مناطق كثيرة من العالم، نتيجة التحولات التي تعرفها العلاقات الدولية بمحتواها الفكري والسياسي الجديد الذي ما زالت الدبلوماسية الجزائرية بعيدة عن التكيف معها بالسرعة المطلوبة.