على مدى ثلاثة أيام استضافت الجزائر منتدى الدول المصدرة للغاز الذي بات يضم 21 دولة (13 عضوا و8 مراقبين) تمثل 70 في المئة من احتياطات الغاز العالمية. توج المنتدى أعماله بقمة شارك فيها رؤساء دول ورؤساء حكومات وممثلون للدول الأعضاء. أقرّ هؤلاء توصيات المنتدى لمستقبل قطاع الغاز والتحديات التي تواجه المنتجين، بما في ذلك التوجه الأوروبي نحو فرض غرامات على كل ما هو طاقة غير نظيفة.
لا شكّ أن القمّة كانت حدثا مهمّا في ضوء ما يمثله الغاز في عالمنا هذا من جهة وحاجة أوروبا إلى الغاز الجزائري من جهة أخرى. كانت القمّة حاجة جزائريّة أيضا في وقت يريد النظام في هذا البلد إظهار أنّه لاعب ذو شأن ووزن على الصعيدين الدولي والإقليمي.
نجح النظام الجزائري نسبيا في جعل القمّة تأخذ بعض الأهمّية، خصوصا مع حضور أمير قطر الشيخ تميم بن خليفة إلى الجزائر والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حين تغيّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ليس ما يشير إلى أنّ بوتين مرتاح إلى ما يسعى النظام الجزائري للقيام به في مجال تحقيق اختراقات في أوروبا، خصوصا مع ألمانيا وإيطاليا في مجال الغاز. ليس سرّا أن دول أوروبا ترفض منذ شنت روسيا حربا على أوكرانيا البقاء تحت رحمة الغاز الروسي. ليس سرّا أيضا أن الجزائر انتهزت هذه الفرصة كي تسعى إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في أوروبا بصفة كونها قادرة على الحلول مكان روسيا. هناك نوع من التوتر بين روسيا والجزائر بسبب ما تعتبره أوساط روسيّة “انتهازية جزائريّة”.
◙ يفترض في الجزائر الاستفادة من تجارب الماضي القريب مع ما يعنيه ذلك من مراجعة شاملة لهذه التجارب التي من بينها فشل النظام فيها منذ الاستقلال في العام 1962 في كلّ الثورات الداخلية
من حق كل دولة في هذا العالم، بما في ذلك الجزائر التي تتحكّم بها مجموعة من العسكر، البحث عن مصالحها. لكنّ نجاح الجزائر في تحقيق خطوة في هذا الاتجاه يبقى مرتبطا بقدرة النظام فيها على التمييز بين السياسة والاقتصاد. بكلام أوضح لا يمكن أن يكون الغاز وسيلة ضغط سياسيّة على دول أخرى كما فعلت الجزائر في الماضي فوقعت في الفخّ الذي وقع فيه بوتين.
يظلّ أهمّ من قمّة الغاز التي انعقدت في الجزائر، هل يستطيع النظام القائم في هذا البلد بناء صدقيّة معيّنة. ترتكز مثل هذه الصدقيّة، أوّل ما ترتكز، على التفريق بين سلاح الغاز والعقد السياسيّة وغير السياسيّة التي يعاني منها النظام. ليس الغاز أداة سياسية بمقدار ما هو سلعة تجاريّة تباع وتشترى بين دول تحترم نفسها. تحتاج الدول الأخرى في أفريقيا وفي القارة الأوروبية إلى صدقيّة جزائريّة لا إلى شعارات سياسية تساعد في تغطية العداء لهذه الدولة أو تلك. على سبيل المثال وليس الحصر، أغلقت الجزائر حديثا أنبوب الغاز الذي يمرّ عبر الأراضي المغربيّة والذي يصبّ في إسبانيا. خلطت بين السياسة والاقتصاد بعدما وضعت الحقد على المغرب فوق كلّ اعتبار، إضافة إلى أنّها تريد إخضاع إسبانيا التي اتخذت موقفا مشرّفا من قضية الصحراء المغربيّة. أخذت إسبانيا عبر رئيس الوزراء فيها بيدرو سانشيز جانب الحق.
جدّد سانشيز في أثناء زياراته الأخيرة إلى الرباط، حيث قابل الملك محمّد السادس، الموقف الإسباني القائم على “اعتبار المبادرة المغربيّة للحكم الذاتي بمثابة الأساس الأكثر جدّية وواقعيّة ومصداقيّة من أجل تسوية الخلاف” المرتبط بالصحراء. يعرف رئيس الوزراء الإسباني الذي كانت بلاده تستعمر الصحراء قبل انسحابها منها وإعادتها إلى أصحابها، أي إلى المغرب، أنّ الخلاف في شأن هذه الأرض مفتعل. يعرف خصوصا أن وراء الخلاف النظام الجزائري الذي يشنّ حرب استنزاف على المغرب منذ العام 1975 عندما انسحبت إسبانيا من الصحراء.. ومنذ “المسيرة الخضراء” التي كرّست استعادة المغرب لأقاليمه الصحراويّة بطريقة حضاريّة.
لا يمكن التقليل من أهمّية قمة الغاز التي انعقدت في الجزائر. لكنّ لا ترجمة على أرض الواقع، لما صدر عن القمّة، من دون تغيير في الذهنية الجزائريّة في شأن كيفية استخدام الغاز بعيدا عن أي نوع من الابتزاز على غرار ما تفعله إيران. تستخدم “الجمهوريّة الإسلاميّة” الغاز من أجل ابتزاز العراق الذي يحتاج هذه المادة لإنتاج الكهرباء. تحوّل الغاز إلى جزء من الضغوط التي تمارسها إيران على العراق من أجل مزيد من الإخضاع لهذا البلد المحوري في المنطقة.
◙ النظام الجزائري نجح نسبيا في جعل القمّة تأخذ بعض الأهمّية، خصوصا مع حضور أمير قطر إلى الجزائر والرئيس الإيراني في حين تغيّب الرئيس الروسي
يفترض في الجزائر الاستفادة من تجارب الماضي القريب مع ما يعنيه ذلك من مراجعة شاملة لهذه التجارب التي من بينها فشل النظام فيها منذ الاستقلال في العام 1962 في كلّ الثورات الداخلية التي سعى إلى تحقيقها. فشلت “الثورة الزراعيّة” وفشلت “الثورة الصناعيّة” التي أنفق عليها مليارات الدولارات في غياب من يشتري ما تنتجه المصانع الجزائريّة. فشلت أخيرا “ثورة التعريب” التي كان الاتكال فيها على بعثيين أو إخوان مسلمين جيء بهم من العراق وسوريا ومصر. نسي الجزائريون الفرنسية، باستثناء قلّة منهم، ولم تتقن العربيّة سوى قلّة أخرى.
لا يشك عاقل في أنّ الجزائر منتج مهمّ للغاز. لكن الحاجة قبل كلّ شيء إلى سياسة عاقلة تجعل من الغاز ثروة وطنيّة تستخدم في تحسين الوضع المعيشي للشعب الجزائري. الحاجة إلى وضع هذه الثروة في خدمة الجزائريين بدل إبقائهم تحت رحمة نظام تتحكّم به مجموعة من الضباط الذين يرفضون التساؤل لماذا لم تستطع الجزائر إقامة علاقة طبيعيّة مع فرنسا مثلا أو مع دول مثل مالي والنيجر أو حتّى مع إسبانيا التي عرفت كيفية الاستغناء عن الغاز الجزائري… مثلما استطاع المغرب تجاوز حرب الاستنزاف التي يتعرّض لها منذ 1975… وتأكيد حقوقه الوطنية ووحدته الترابيّة.
تشكل قمة الغاز فرصة كي تتصالح الجزائر مع نفسها. يمتلك هذا البلد بعض أفضل الدبلوماسيين العرب. لكنّ المشكلة تبقى في القدرة على حدوث تغيير جذري في داخل المجموعة العسكرية الحاكمة… كي تتصالح الجزائر مع نفسها ومع شعبها أوّلا وأخيرا.