الرباط – مدريد : محور إفريقي- أوروبي مستدام للأمن و السلام و الإزدهار
البراق شادي عبد السلام
العلاقات المغربية الإسبانية هي ليست مجرد علاقات نمطية بين دولتين صديقتين تؤطرها إتفاقيات أو معاهدات و لقاءات روتينية متواترة بين قيادة البلدين بل هي روابط تاريخية و حضارية متينة بين أسرتين ملكيتين عريقتين و علاقات طيبة بين شعبين صديقين يمتلكان الكثير من التاريخ المشترك يمتد لآلاف السنين ثم علاقات بين مملكتين جارتين و بلدين يتطلعان للمزيد من التعاون المثمر المشترك ، لذلك فمحور الرباط / مدريد هو أحد الفواعل المؤثرة في الديناميات المؤثرة على الأمن الجيوسياسي في مضيق جبل طارق الذي تحول إلى أحد أهم الممرات المائية المؤثرة في سلاسل الإنتاج العالمية و يشكل أحد عوامل الإستقرار الجيوسياسي في منطقة غرب المتوسط و شمال غرب إفريقيا و العالم .
بالعودة قليلا إلى الوراء يمكننا إعتبار مضامين الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2021 تخليدا لذكرى ثورة الملك و الشعب خارطة طريق متكاملة لإعادة بناء العلاقات المغربية الإسبانية على أسس هادئة و واضحة و مسؤولة ،حيث أكد جلالته في ذات الخطاب السامي على أن المغرب ” يتطلع، بكل صدق وتفاؤل، لمواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية ومع رئيسها معالي السيد بيدرو شانشيز من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل، والوفاء بالالتزامات.” ..// إنتهى الإقتباس ؛ و هو ما أكد عليه رئيس الحكومة الإسبانية السيد بيدرو شانشيز في رسالته إلى جلالة الملك محمد السادس ليوم 14 مارس 2022 بقوله : ” هدفنا يتمثل في بناء علاقة جديدة، تقوم على الشفافيةو التواصل الدائم، والإحترام المتبادل للإتفاقيات الموقعة بين الطرفين والإمتناع عن كل عمل أحادي الجانب، وفي مستوى أهمية جميع ما نتقاسمه”..// إنتهى الإقتباس .
الثقة و الشفافية و الإحترام المتبادل و الوفاء بالإلتزامات هي محددات جوهرية في معالجة الملفات السياسية و الإقتصادية المطروحة فوق طاولة الحوار الإستراتيجي المغربي الإسباني لذا فالمملكة المغربية كقوة إقليمية في غرب المتوسط بإمتدادات ديبلوماسية عريقة و شبكة علاقات دولية واسعة يشتغل وفق مقاربة ديبلوماسية تشاركية مبنية على الإلتزام بالقانون الدولي و الأعراف الديبلوماسية و إحترام سيادة الدول و شؤونها الداخلية و موقف الدولة الإسبانية الواقعي من قضية الوحدة الترابية للمملكة ودعمها الصريح و العلني لمبادرة الحكم الذاتي المعبر عنه في البيان المشترك المعتمد في 7 أبريل 2022، والإعلان المشترك الصادر في ختام الدورة الـ 12 للاجتماع رفيع المستوى المغرب – إسبانيا المنعقد في 2 فبراير 2023 بإعتباره الحل السياسي الأكثر جدية و واقعية و مصداقية هو بداية عصر جديد من التوافق الحضاري بين أمتين عريقتين تربطهما أواصر صداقة قديمة تمتد لآلاف السنين .
و لهذا تمثل الزيارة التي قام بها السيد بيدرو شانشيز رئيس الحكومة في المملكة الإسبانية إلى العاصمة الرباط و اللقاءات الرفيعة المستوى التي أجراها و في قمتها الإستقبال الملكي من طرف جلالة الملك محمد السادس نصره الله ، تمثل إضافة نوعية مهمة لمسار الشراكة الإستراتيجية بين محور الرباط – مدريد الذي تحول بفضل الإرادة القوية لقيادة البلدين إلى عامل مهم من أجل ترسيخ أسس هذه العلاقات و وضع تصور مستقبلي برؤية إندماجية لها بناء على الروابط الحضارية و التاريخية و الجغرافية المشتركة التي جسدها المشروع الأممي المغربي – الإيبيري بإحتضان و تنظيم حدث كأس العالم 2030 و إنطلاق العمل في مشروع الربط القاري عبر مضيق جبل طارق و الذي سيكون بلاشك أول محطة مفصلية في مسار تاريخي جديد للعلاقات بين الشعب المغربي العظيم و الشعب الإسباني الصديق ، ملف الترشيح المشترك المغربي – الإيبيري هو رسالة إلى العالم أن صانع القرار السياسي المغربي قد حسم قراره التاريخي في وضع تسوية إقليمية تناسب تطلعاته في بناء جسور السلام و التعاون و البناء الإقتصادي المشترك و محور الرباط / مدريد التاريخي أصبح اليوم واقعا جيوسياسيا في غرب المتوسط وفق توجه أطلسي ثابت الخطى .
تأتي هذه الزيارة بعد سنة من إنعقاد الدورة الثانية عشرة للاجتماع رفيع المستوى المغرب-إسبانيا، و بعد ثماني سنوات على عقد آخر دورة لهذه الآلية المؤسساتية الرفيعة المستوى في مدينة الرباط على مدى يومين من الإجتماعات و اللقاءات المشتركة بين المسؤولين المغاربة و نظراءهم الإسبان في ظرفية دولية و إقليمية دقيقية عنوانها اللايقين الإقتصادي و تداعيات جائحة كورونا و إنعكاسات الحرب الأوكرانية على الوضع الإقتصادي العالمي و التجاذبات الجيوسياسية بين القوى الدولية في خضم محاولة أطراف إقليمية التأثير على عمق و صيرورة هذه العلاقات بقرارات مزاجية و مواقف إستفزازية و مؤامرات سياسية .
عودة الدفئ للعلاقات المغربية – الإسبانية يجسد التنزيل الدقيق للرؤية الملكية المستنيرة في الشأن الديبلوماسي و التي ترى في المملكة المغربية لاعبا أساسيا و محوريا في الأمن البشري للقارة الإفريقية و في محيطها المتوسطي و الدولي، لذا المملكة المغربية قادرة بكل مسؤولية على ممارستها دورها الريادي في القارة الإفريقية كحلقة وصل بين الشعوب الإفريقية الغنية بمواردها البشرية والطبيعية و باقي دول الشمال التي تبحث على موطئ قدم في القارة الإفريقية من خلال شراكات إستراتيجية مسؤولة تخدم مصالح و ثروات و مقدرات شعوب القارة و تدعم قدرتها على الصمود في وجه التغيرات المناخية القاسية و المخاطر الأمنية القاهرة .
إعجاب السيد بيدرو شانشيز بالمشاريع و المبادرات المهيكلة التي يطرحها المغرب كحلول تنموية شاملة في محيطه الإقليمي كمشروع أنبوب الغاز إفريقيا – الأطلسي المغرب/ نيجيريا الذي يعتبر طريقا جديدا للإندماج الإقليمي بين مختلف شعوب غرب و شمال القارة الأفريقية بقيادة إقليمية مغربية – نيجيرية ، من خلال العمل على تنفيذ مشاريع اندماجية وتشاركية برؤية متجددة للتعاون المتعدد الأطراف لتحقيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية الشاملة و التكامل القاري والإقليمي و تعزيز السيادة الطاقية و ترسيخ قيم الإستقرار والسلام والأمن كمداخل للديمقراطية و الحكامة الرشيدة و كذا المبادرة الملكية لتعزيز ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي و مبادرة البلدان الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي كمبادرات متفردة تقوي الروابط بين الشعوب الإفريقية و تندرج في صلب السياسات القارية التي تدعو إلى التكامل الإقتصادي و التعاون البناء بين كل دول القارة الإفريقية لتثمين ثرواتها وحماية مقدراتها من السياسات الإستعمارية وأطماع بعض القوى التي تحن إلى تاريخها الإمبريالي البغيض القائم على النهب و الإستغلال و الإستعباد لمقدرات الشعوب الإفريقية .
الموقف الإسباني إتجاه الوحدة الترابية للمملكة المغربية الشريفة يدعم جهود المملكة المغربية لمساعدة شعوب القارة الإفريقية على ضمان حقوقها الغير قابلة للتصرف في التنمية المستدامة و تحقيق الأمن و دعم جهود الإستقرار و يؤكد على الفهم العميق و الدقيق لصانع القرار الإسباني لطبيعة التحديات و المخاطر التي تهدد الإقليم بصفة عامة و المصالح الإسبانية و يعطي القوة لقدرة مدريد على التموقع الإيجابي في القارة الإفريقية من منطلق الشراكة الإيجابية الفاعلة .
توقيت زيارة السيد بيدرو شانشيز إلى المملكة المغربية يضفى على الزيارة أبعاد عميقة للغاية، لأنها تعكس إهتمام المملكة المغربية بترسيخ روابطها الإقليمية في ظل تعنت الجوار الإقليمي عن التوصل لتسوية إقليمية و غرقه في مقاربات عدائية لا تتناسب و حجم التهديدات التي تواجه الأمن البشري الجماعي في المنطقة .
اللقاء المغربي – الإسباني يكرس مكانة المملكة المغربية المركزية في مستقبل المنطقة ويؤكد صواب رؤيتها الاستراتيجية الساعية إلى نزع فتيل الأزمات و خفض التوتر الإقليمي عبر بناء شراكات فاعلة و تصورات مشتركة حيال القضايا و الملفات التي تقع في مدار إهتمام الفاعل الديبلوماسي المغربي .
و لاغالب إلا الله .