علاقات متوترة مع المحيط القريب والبعيد وتخبط في صناعة القرار السياسي وهروب من الفشل الدبلوماسي دون فهم السبب، كلها تصلح عناوين رئيسية لفهم الحالة الجزائرية في الوقت الراهن. النيجر ومالي لم تتحملا تدخلات الجزائر في شؤونهما، والمغرب لازال العدو والشماعة اللذين تعلق عليهما الحكومات الجزائرية المتعاقبة سقطاتها المتتالية. أما كيف يرى النظام، ارتباطه بإسبانيا، فحدّث عن كل أنواع الحرج الذي وضعت فيه رئاسة عبدالمجيد تبون هذه الحكومة والحكومة التي سبقتها.
المشكلة كبيرة وعويصة مع صاحب القرار الجزائري الذي يعاند التاريخ ويغالط الجغرافيا ولا يستوعب ما يدور حوله من متغيرات.
نظام الجارة الجزائر يوجد خارج السياقات الجيوسياسية، ويظهر حماسا لإعادة إنتاج نفس السياسات، مع أن النتيجة لا تتغير سوى في الأسماء. اعتبر الرئيس الجزائري أن الوقت قد حان لعودة الحياة الدبلوماسية إلى طبيعتها مع إسبانيا باختيار الدبلوماسي المخضرم عبدالفتاح دغموم سفيرا لبلده بمدريد. لكن الخطوة لم يكن لها وقع إيجابي على العلاقات الثنائية بما يخدم أجندة بلده، كونها أجندة قائمة على التدخل، لا تواكب التطورات الحادثة إقليميا ودوليا، والأهم أنها لم تستوعب الأولويات التي تحكم السياسة الخارجية للدولة الإسبانية، وليس فقط لحكومة أو حزب يحكم لفترة محددة، وهي أولويات تجعل من المغرب محطة مهمة تخدم الأمن القومي.
◙ لسبب واحد لم تنجح كل هذه الإجراءات في إجبار إسبانيا على التخلي عن قرارها السيادي دعم الوحدة الترابية للمغرب، وهو أن مدريد درست خطواتها واتخذتها في اتجاه يخدم أمنها القومي
التراجع الجزائري غير المشروط بعد أكثر من 19 شهرا من شغور منصب السفير في مدريد، لم يكتب بعد نهاية كاملة وشاملة للأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقات السياسية والتجارية بين البلدين على مدى العام ونصف العام الماضيين، بدليل تراجع وزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس عن قراره السفر إلى الجزائر. أراد خوسيه مناقشة الملفات الخارجية مع رأس الدولة مباشرة وليس مع نظيره أحمد عطاف، وهو ما اعتبره عطاف خرقا للقواعد الدبلوماسية المعمول بها، وتم تبرير عدم الاستقبال “بسبب مشاكل في الأجندة الزمنية للرئيس”، رغم أن استقبال وزير الخارجية من طرف الرئيس ليس خرقا ولا سابقة. وقبل شهر استقبل الرئيس الجزائري وزير خارجية موريتانيا محمد سالم ولد مرزوك.
ما الرسالة التي سعى إليها تبون من وراء قراره؟
إنها رسالة موجهة إلى الخارج بأنه لازالت له اليد العليا في العلاقة مع إسبانيا. ولكن، هذا الخارج يعرف ما يحدث، ولم يعد يخفى عليه شيء، فروائح المطبخ السياسي الجزائري فواحة ولا تحتاج إلى من يفقه في الطبخ ليعرف نوع الطبخة. رسالة ثانية أراد النظام توجيهها للداخل وهي أن إسبانيا الطرف الذي يسعى إلى المصالحة. الشعب حفظ تلك الأسطوانة ولا مجال لتكرارها على مسامعه، وما يريده هو الكرامة والحرية وما يسد به الرمق.
هناك قضيتان اقتصاديتان تتحديان المخطط الجزائري، الأولى أن المغرب يعد اليوم الشريك الأقرب لإسبانيا، بما تحمله هذه الشراكة من ثقل اقتصادي يفيد الطرفين معا، خصوصا التدفق الاستثماري الذي يرافق الاستعداد لكأس العالم 2030، والذي سيُوَجَّهُ جزء كبير منه نحو الأقاليم الجنوبية، وهي المنطقة التي ستكون منصة للانطلاق باتجاه الأسواق الأفريقية التي أضحت جذابة بشكل أكبر للغرب، وإسبانيا ليست استثناء، وهي تفضل المغرب شريكا وحليفا في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية.
◙ التراجع الجزائري غير المشروط بعد أكثر من 19 شهرا من شغور منصب السفير في مدريد، لم يكتب بعد نهاية كاملة وشاملة للأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقات السياسية والتجارية بين البلدين
القضية الثانية، هي المبادرة التي أطلقتها المملكة المغربية المتعلقة بالأطلسي والتي ستكون قاطرة تربط الساحل والصحراء مع أوروبا في شقيها الاقتصادي والأمني، وهما الاعتباران اللذان سيدفعان إسبانيا ودولا أوروبية أخرى بعدها، لفتح قنصلياتها في مدن الصحراء لحماية وتسهيل مصالحها الاقتصادية، ما يعتبر نقطة النهاية للمشروع الانفصالي بواجهته بوليساريو ومحركه المباشر الجزائر. ومن هنا ليس غريبا أن تحذر خارجية إسبانيا مواطنيها من أي تحرك غير محسوب بالقرب من مخيمات بوليساريو التي انخرطت في مشاريع إرهابية.
لم تكن الجزائر تعرف ما يمكن توقعه من مدريد، حتى اتفاقيتي الزراعة والصيد البحري بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، اللتين راهنت عليهما الجزائر وحاولت ملاعبة إسبانيا بهما كورقة ضغط وابتزاز من داخل الاتحاد الأوروبي لكي تتحلل من اتفاقاتها مع المغرب، لم تبقيا حبيستيْ رؤية أحادية تحكمها نظرة استعلائية أوروبية بمبررات لم تعد ذات أهمية، وبالتالي يبدو أن الاعتبارات الجيوستراتيجية التي تحكم العلاقات بين مدريد والرباط بعد الأزمة السابقة التي تسببت فيها بوليساريو وراعيتها الجزائر، تستدعي فك عقدة الاعتبارات السياسية التي تستند إليها المفوضية الأوروبية لمنع استيراد منتجات المغرب البحرية والزراعية من ترابه ومياهه الخاضعة لسيادتها.
وللمفارقة، فإن الجزائر تفضل المنتجات الإسبانية التي يأتي جزء منها من الأراضي المغربية.
وكانت الجزائر قد خفضت في أواخر عام 2021 تدفقات الغاز إلى إسبانيا عندما أوقفت التدفق عبر خط الأنابيب الذي يعبر المغرب، ثم هددت بوقف صادرات الغاز إلى إسبانيا تماما إذا باعت مدريد الغاز الجزائري إلى المغرب. كما طلبت الجزائر من بنوكها تجنب واردات التمويل من إسبانيا وتخفيف مراقبة الحدود، وغضت الطرف عن الآلاف من المهاجرين الجزائريين الذين يعبرون على متن قوارب محفوفة بالمخاطر إلى إسبانيا.
◙ الرئيس الجزائري اعتبر أن الوقت قد حان لعودة الحياة الدبلوماسية إلى طبيعتها مع إسبانيا باختيار الدبلوماسي المخضرم عبدالفتاح دغموم سفيرا لبلده بمدريد
كان اعتراف مدريد بسيادة المغرب على صحرائه سببا مباشرا في تدهور العلاقات بين مدريد والجزائر إلى درجة أن الجزائر في يونيو 2022، غامرت بتعليق معاهدة الصداقة والتعاون الاقتصادي التي استمرت عقدين مع إسبانيا، ورغم التراجع عن هذا القرار في أواخر يوليو إلا أنه لا يزال يؤثر على العلاقات التجارية وإدارة الهجرة بين البلدين. ما يعني أن مواقف الجزائر تتأسس على تفكير متسرع وانفعالي لا علاقة له بما يقوم به رجال الدولة الحقيقيين الذين يستحضرون كل الظروف المحيطة ويشحذون الأدوات ويخفضون الأدرينالين السياسي حتى يخرج القرار من أبرد منطقة من الذهن الدبلوماسي.
أحد جوانب معاهدة الصداقة بين إسبانيا والجزائر التي تم تعليقها في يونيو، هو السيطرة على الهجرة، لكن النظام ضربته نشوة آخر العمر وقال مخاطبا نفسه لم لا أطلق دفقا بشريا عبر البحر الأبيض المتوسط وأغض الطرف ليكون رسالة تحدٍّ للسلطات الإسبانية كي تتخلى عن قرارها الداعم لوحدة المغرب الترابية والعودة إلى ما كان عليه الأمر سابقا؟ وهو ما كان، وتجاوزت أعداد المهاجرين غير النظاميين في عام 2022 الأعداد المسجلة عام 2021. لكن الخطة فشلت كما العادة.
لسبب واحد لم تنجح كل هذه الإجراءات في إجبار إسبانيا على التخلي عن قرارها السيادي دعم الوحدة الترابية للمغرب، وهو أن مدريد درست خطواتها واتخذتها في اتجاه يخدم أمنها القومي على المديين المتوسط والبعيد، ومن بين هذه الخطوات قرارها الدخول في شراكة متطورة ومعمقة مع المغرب بعيدا عن أي حساسية أو انفعال لحظي تكون له تداعيات مستقبلية سلبية على مصالح إسبانيا في محيط تغيرت أولوياته.
لقد كان الأمر سهلاً عندما تغلبت مدريد على صعوبة الحصول على تأشيرة الدخول في علاقات متقدمة مع المغرب، باعتماد شيفرة الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، وهو ما نعتبره نكسة لعلاقة على المقاس كانت تريدها الجزائر مع إسبانيا.