قبل اختيار ستيفان دي ميستورا مبعوثا للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء في 2021 قادما من المستنقع السوري دون نتيجة تذكر، تم تداول ترشيح رئيس الوزراء ووزير الخارجية الروماني الأسبق بيتري رومان ليشغل هذا المنصب، لكن تم رفضه من قبل الجزائر وجبهة بوليساريو بسبب مشاركته في نسختي 2015 و2018 من منتدى كرانس مونتانا في مدينة الداخلة، وهو ما تدعيه جبهة بوليساريو تحيزا للمغرب، وأنه غير محايد، رغم أنه يحمل رأيا خاصا يتناغم مع قرارات مجلس الأمن في قضية الصحراء المغربية، والخاصة بمصداقية مقترح الحكم الذاتي بدلًا من استفتاء تقرير مصير الشعب الصحراوي الذي لم تعد الأمم المتحدة تهتم به.
اليوم وبعد سنتين من اختياره يبدو أن دي ميستورا أفرغ ما في جعبته الدبلوماسية وبصم على عدم حياده في هذا الملف إثر توجهه نحو عاصمة جنوب أفريقيا للقاء مسؤوليها الأربعاء الماضي تحت مبرر الانفتاح على مقترحات أخرى تغني البحث عن الحل السياسي، قافزا بشكل لا يتناسب مع مهمته التي تقتضي الحياد الصارم على منهج وأولويات المنظمة التي يمثلها والتي وضعت معايير محددة في الدول المعنية بالانفتاح على آرائها، وقفز أيضا بشكل لا مسؤول على أدبيات الإبلاغ عن أيّ خطوات سيقدم عليها مع البلد الرئيسي المعني ألا وهو المغرب.
هنا يتبدى لنا أن ما قام به دي ميستورا يفتقر إلى الكياسة الدبلوماسية وغياب معرفة دقيقة بمرتكزات هذا الملف الذي يختلف عن القضايا التي كان فيها وسيطا، وفشل فيها مضمونا وشكلا. كان الكل يتوقع أن تكون لدى هذا الدبلوماسي الإيطالي خطة بديلة أو مكملة لما قام به سلفه الألماني هورست كوهلر، لكن خاب الظن بعدما فشل في السير على نهج سلفه، وفي إحياء مسار التسوية السياسية بجدية بإقناع الجزائر وبوليساريو بالجلوس مرة أخرى إلى مائدة المباحثات للتوصل إلى حل نهائي وواقعي متفق بشأنه.
◙ دي ميستورا عكس سلفه كوهلر لم يستطع تحقيق أيّ اختراق في الملف بتنفيذ توصيات مجلس الأمن الدولي وإقناع الدول المعنية بالعودة إلى طاولة المحادثات
لا نقول إلا ما يرضي الواقع، ففي الوقت الذي يقوى فيه الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية والتفاعل الإيجابي للمغرب مع الأمم المتحدة، كان على دي ميستورا الالتزام في خط سيره بعدم الاصطدام مع المغرب والمجتمع الدولي، ويتفادى زيارة غير مجدية إلى جنوب أفريقيا، هذا البلد المعروف بحرصه على الوقوف ضد سيادة المملكة ووحدتها متماهيا مع الطرح الانفصالي لبوليساريو بدعم جزائري، ليحقق ستيفان دي ميستورا قفزة حرة في الهواء متجاوزا تراكمات أسلافه بفتح ذراعيه لداعمي انفصال الصحراء.
لا نعتقد أنه مجرد خطأ في التقدير من طرف دي ميستورا، لأن الزيارة جاءت بعد أن مرّ على وجوده في منصبه مدة كافية لهضم كل ملابسات الملف القانونية والسياسية والتاريخية، ومعرفة دقيقة بالدول التي لها مواقف معادية أو محايدة أو داعمة للحل الذي اقترحه المغرب منذ العام 2007، والدليل هو ما قاله المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، في إحاطته الصحفية، “إذا كان هناك طرف مّا غير موافق على زيارة دي ميستورا إلى جنوب أفريقيا، فهذا لا يعني أن دي ميستورا لن يزور ذلك البلد من أجل مناقشة الملف”.
ما يدعم هذا الرأي هو تأكيد عمر هلال السفير الممثل الدائم للمغرب بالأمم المتحدة، بعد قيام الرباط بإبلاغ دي ميستورا بمعارضتها زيارته بريتوريا، محذرا بذلك الدبلوماسي الإيطالي من “تحدي المملكة المغربية”. هذا التحذير ليس مبالغة دبلوماسية وإنما هو مبني على معطيات دقيقة حول ظروف تحرك دي ميستورا وقبوله التعاطي مع مقترحات جنوب أفريقيا التي لم تفصح عنها، والغالب أنها لن تصبّ في مصلحة حل واقعي وسلمي ومتناغم مع قرارات مجلس الأمن وما تحقق في الصحراء المغربية.
أطراف النزاع المفتعل معروفة، الجزائر وموريتانيا وبوليساريو والمغرب، وقد التقى دي ميستورا بمسؤوليها غير ما مرة كي يُكوِّن رأيا حول القضية، بالتالي ما علاقة بريتوريا بهذا النزاع الذي لا تتجاوز مساهمتها فيه دعم الانفصال وإعاقة الحل السياسي الواقعي، إلا إذا كان هذا الدبلوماسي الإيطالي مدفوعا من حيث يدري أو لا يدري لخلق أزمة بين المغرب والأمم المتحدة بعدما فشل في إقناع الجزائر بالجلوس إلى طاولة المحادثات.
بعد محادثات مطولة مع فاعلين اقتصاديين وفعاليات حقوقية ونسوية وشيوخ القبائل الصحراوية في سبتمبر الماضي، ماذا يعرف المبعوث الأممي عن المجهودات التي قامت بها المملكة لتنمية أقاليمها الصحراوية وتأهيلها لكي تكون منصة آمنة مستقرة تستقطب الاستثمارات والبعثات الدبلوماسية لعدد كبير من الدول، وهل وقف المبعوث الأممي على ما يوجد في مخيمات تندوف من حصار للسكان ونهب للمساعدات الدولية من طرف الميليشيات المتحكمة في رقابهم، ومن القمع والتهميش الحقوقي والإنساني الذي يعيشه سكان المخيمات الذين يطالب المجتمع الدولي بإحصاء عددهم وحمايتهم من المتاجرين بالدم والعرض والأرض.
◙ ما قام به دي ميستورا يفتقر إلى الكياسة الدبلوماسية وغياب معرفة دقيقة بمرتكزات هذا الملف الذي يختلف عن القضايا التي كان فيها وسيطا، وفشل فيها مضمونا وشكلا
عندما يتجاوز دي ميستورا هذه النقاط الجوهرية في ملف حساس ومعقد ويذهب نحو بريتوريا معقل عدم الحياد، فهذا يعني أن هناك اختلالا وقع في ميزان التوقعات والانتظارات لهذا الدبلوماسي، ما يدفعنا مرة أخرى للعودة إلى رئيس الوزراء ووزير الخارجية الروماني الأسبق بيتري رومان الذي يملك رؤية متقدمة حول الملف عندما صرح أن مدينة الداخلة جنوب المملكة تمثل معجزة في القارة الأفريقية كقصة نجاح ملحوظة، وأن أفريقيا حاليا في حاجة إلى مثل هذه النماذج من النجاح، التي هي الآن حالة فردية.
واقعية الدبلوماسي الروماني كانت مصدر إزعاج لخصوم وحدة التراب المغربي ومنهم جنوب أفريقيا، التي لا تريد لاسم المغرب أن يكون حاضرا في تشكيل الوجه الآخر لأفريقيا وتثمين تواجده في عمقه الأفريقي بناء على معادلة رابح – رابح. ومؤكد أن عودة المملكة إلى هياكل الاتحاد الأفريقي واختيارها رئيسا لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتكسير دعمها لبوليساريو في مجموعة بريكس، وآخرها فتح الواجهة الأطلسية في وجه دول الساحل والصحراء، كلها من دواعي عداء بريتوريا للمغرب، وهو ما جعلها تدفع دي ميستورا للتنسيق معها ضد قرارات الأمم المتحدة في ملف المفروض أنه حصري بالأطراف المعنية.
الغريب أن دي ميستورا عكس سلفه كوهلر لم يستطع تحقيق أيّ اختراق في الملف بتنفيذ توصيات مجلس الأمن الدولي وإقناع الدول المعنية بالعودة إلى طاولة المحادثات، ويبدو أيضا أنه تجاهل تقييم المبعوث السابق الهولندي بيتر فان فالسوم، الذي شدد في أبريل 2008 على أن خيار الاستقلال الذي تطالب به بوليساريو خيار غير واقعي وأن استفتاء تقرير المصير الذي طُرح سابقا أمر تجاوزه الزمن، وهو الذي تميزت مهمته بتنظيم جولات محادثات بين أطراف النزاع المفتعل عام 2007 بالولايات المتحدة.
وبدلا من الاستفادة من التراكمات التي تحققت على يد من سبقه من مبعوثين، قام دي ميستورا بخرق النهج الذي يسير عليه مجلس الأمن وفضّل الاتصال بقيادة جنوب أفريقيا التي تعترف وتدعم بوليساريو دبلوماسيا وسياسيا، وكأنها دولة معترف بها أمميا.