هل تصطدم مصالح روسيا بمخططات الجزائر في منطقة الساحل

فلاديمير بوتين أمر بتقديم 200 ألف طن من القمح لبوركينا فاسو ومالي وأفريقيا الوسطى وإريتريا وزمبابوي والصومال

في 26 يناير 2024 فوجئ رواد مسجد أهل السنة في العاصمة واغادوغو بعدد من العسكريين الروس وهم يؤدون بينهم صلاة الجمعة، في اليوم الموالي، تحدثت مصادر محلية عن وصول جنود روس بينهم مدربون، إلى بوركينا فاسو، كجزء من تعزيز التعاون العسكري والإستراتيجي بين البلدين.

قالت الحكومة إن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها، وإنها تأتي في الإطار الطبيعي للعلاقات المتميزة القائمة بين البلدين. وتهدف قبل كل شيء إلى تعزيز التعاون العسكري والإستراتيجي بين البلدين وبين الجيشين.

تجسد هذا التعزيز للتعاون العسكري والإستراتيجي بالفعل من خلال الزيادة الكبيرة في المنح الدراسية في جميع الفئات. ففي 6 ديسمبر 2023 عينت الحكومة الروسية الدبلوماسي أريستيد رابوجدودبا لودوفيتش تابسوبا، بصفته سفيرا فوق العادة ومفوضا لبوركينا فاسو لدى الاتحاد الروسي، وفي 28 ديسمبر 2023 أعادت روسيا فتح سفارتها في واغادوغو بعد إغلاق دام 31 عاما.

◙ روسيا تحولت إلى فاعل أساسي في الساحل والصحراء، وهي تنطلق في نشاطها هناك من رؤية واضحة في تحديد خارطة نفوذها أمام النفوذ الغربي

قبل أيام، أعلنت حكومة واغادوغو وصول 25 ألف طن من القمح هبة من موسكو. الهبة هي من أصل 200 ألف طن تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديمها لعدد من البلدان الأفريقية هي بوركينا فاسو ومالي وأفريقيا الوسطى وإريتريا وزمبابوي والصومال.

قال الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو إبراهيم تراوري، في يوليو الماضي، إن روسيا “هي الشريك الحقيقي” لبلاده، مضيفا أن واغادوغو تتطلع إلى أن تبني بها موسكو محطة للطاقة النووية، وأن بلاده “في حاجة إلى توليد الطاقة”، وأنها تحتل “موقعا إستراتيجيا”، وإذا “تمكنت روسيا من كسب موطئ قدم في هذه المنطقة، فستكون قادرة على توليد الطاقة للمنطقة بأكملها”.

في أكتوبر الماضي، أعلنت حكومة بوركينا فاسو أنها وقّعت اتفاقا مع روسيا لبناء محطة نووية لتغطية احتياجات السكان من الطاقة، في بلد لا تصل الكهرباء فيه سوى إلى ربع السكان، وقالت إن “حكومة بوركينا فاسو وقّعت مع روسا مذكرة تفاهم لبناء محطة نووية”.

شمل التعاون كذلك قطاعات الصحة والتعليم والإعلام وغيرها، والأهم عمليا هو دعم روسيا للجيش البوركينابي في حربه ضد الجماعات الإرهابية التي تسيطر على حوالي ثلث مساحة البلاد.

في منتصف يناير الماضي، كان هناك حراك آخر في المنطقة يكرّس النفوذ الروسي، وهو زيارة أجراها رئيس الحكومة الانتقالية في جمهورية النيجر علي محمد الأمين زين إلى موسكو.

قال وزير الدفاع النيجري الفريق ساليفو مودي، الذي كان ضمن الوفد، إن الزيارة تأتي في إطار تعزيز التعاون في المجال الاقتصادي والاجتماعي والدفاع والأمن، وإن الهدف منها هو إنشاء قنوات تواصل وتحديد المجالات التي سيتم العمل عليها.

وأضاف “اتفقنا على مشاريع مشتركة ستبدأ أنشطتها قريبا في مجال تعزيز قدرات قواتنا المسلحة”، معتبرا أن خروج القوات الفرنسية من بلاده له أثر إيجابي على الحرب ضد الإرهاب.

◙ الروس لا يهددون مصالح الجزائر ولكنهم لا يوافقون على تحييد مصالحهم أو تأجيلها من أجل عيون أيّ بلد آخر

تشهد العلاقات بين موسكو ونيامي تطورا مهما على جميع الأصعدة، وهو ما ينعكس على علاقات النيجر بصورة عامة مع مجموعة بريكس التي وصل وفد مشترك عنها إلى البلاد، وكان له في 30 يناير 2024 لقاء مع رئيس الحكومة الانتقالية لمناقشة العديد من القضايا الحاسمة، أبرزها تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين النيجر ودول بريكس.

تقول النيجر الغنية بالمواد الخام إنها تسعى في توجهها السياسي الجديد إلى تنويع شراكاتها من أجل تسريع وتيرة التنمية الصناعية والبنية التحتية، حيث أبدت بريكس اهتمامها بالتعاون مع النيجر لتحقيق مصالح مشتركة.

الأمر ذاته تقريبا في مالي، ولكن بمؤشرات أبلغ، فموسكو التي تقدم إسنادا عسكريا معلنا ومهما لباماكو، وساعدتها في استعادة مدينة كيدال من الانفصاليين الأزواد في نوفمبر الماضي، وكانت وراء رفع العقوبات الدولية عنها برفع الفيتو في مجلس الأمن ضد تجديدها، هي ذاتها التي تعقد معها اليوم صفقات مهمة تتعلق بالاستثمار في الثروات الباطنية وبتطوير الخدمات وتحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين.

وقال رئيس وزراء دولة مالي شوغيل مايغا إنّ بلاده تعتبر “روسيا شريكا موثوقا ومناسبا، ولا تمارس لعبة مزدوجة”. وهو ما بات يمثل قناعة لدى الكثير من دول المنطقة التي ترى أن الروس يتميزون بعدم التخلي عن أصدقائهم، وبالتعامل وفق المصالح المشتركة المتفق عليها. عكس أغلب الدول الغربية التي تنظر إلى شعوب العالم الثالث نظرة فوقية، وإلى دوله بعقلية انتهازية وبمنطق الإملاءات التي أثبتت في العديد من الأحيان فشلها في تغيير الواقع نحو الأفضل.

ويتمدد اليوم النفوذ الروسي في منطقة الساحل والصحراء ليشكل تحولا استثنائيا في الخارطة الجيوسياسية، وليعيد تشكيل خارطة النفوذ بملامح جديدة من أهم مميزاتها التمرد على القوى الاستعمارية السابقة وفي مقدمتها فرنسا التي فقدت أبرز قواعدها، وخاصة في دول كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، وجاءت زيارة الرئيس الانتقالي في تشاد محمد إدريس ديبي إتنو إلى موسكو قبل أيام لتشير إلى أن خارطة التحولات لا تزال تتسع، وهي إنما تعبّر اليوم عن واقع جديد فرضته تطورات تتجاوز المنطقة إلى العالم وتوازنات لا تحدد المصالح فقط، وإنما كذلك قراءة التاريخ من خلال حسابات الجغرافيا وحساسياتها.

من يتابع هذه التحولات في منطقة الساحل سيدرك من البدء أنها تحولات تكاد تكون شاملة، وهي تعيد ترتيب كل الملفات في سياقات إعادة البناء التي تسعى إليها الأنظمة العسكرية، وهو ما تستفيد منه دول مثل المغرب وتركيا وإيران، بينما تجد دولة مثل الجزائر نفسها عاجزة عن مواكبة التحولات الحاصلة وعن مسايرة المعطيات الجديدة، وذلك لأسباب عدة، منها أنها تعيش على وهم الزعامة الإقليمية وتحاول الاستفادة من دورها كوسيط بين القوى المتصارعة في بؤر الصراع، وخاصة منذ 2011 عندما تمت الإطاحة بنظام الزعيم الليبي معمر القذافي الذي كانت له اليد الطولى في منطقة الساحل والصحراء وخاصة في العلاقة مع المجتمعات المحلية ومنها مجتمع الطوارق الممتد في جنوب غرب ليبيا وجنوب الجزائر وشمال مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

◙ العلاقات بين موسكو ونيامي تشهد تطورا مهما على جميع الأصعدة، وهو ما ينعكس على علاقات النيجر بصورة عامة مع مجموعة بريكس

بمنطق العلاقات القائمة بين الدول يمكن الحديث عن تصادم مصالح بين الجزائر وفرنسا في منطقة الساحل والصحراء وعن تحالف كامل بين الجزائر وروسيا يترجم على الأقل الشراكة الإستراتيجية بينهما، لكن الواقع يقول العكس تماما، فالجزائر تجد نفسها اليوم في موقف صعب بعد إعلان المجلس العسكري الحاكم في مالي إنهاء اتفاق السلام الموقّع عام 2015 مع الجماعات الانفصالية الشمالية، بأثر فوري، بسبب عدم التزام الموقّعين الآخرين بتعهداتهم والأعمال العدائية التي تقوم بها الجارة الشمالية التي لا تكفّ عن محاولاتها تصدير الأزمات ولا عن البحث عن الثغور لاعتمادها في عمليات اختراق تهدف من ورائها إلى المزيد من التوسع على حساب الآخرين.

قبل عقود كان يمكن الحديث عن تقديم الجزائر بعض الخدمات لمصالح روسيا في المنطقة، أما اليوم فقد تغيّرت الصورة حيث تحولت روسيا إلى فاعل أساسي في الساحل والصحراء، وهي تنطلق في نشاطها هناك من رؤية واضحة في تحديد خارطة نفوذها أمام النفوذ الغربي سواء كان فرنسيا أو أميركيا، ومن قدرة على تقديم البدائل الأمنية والعسكرية والاقتصادية والخدمية والإستراتيجية للدول والشعوب، وقد تأكد ذلك بالفعل من خلال حضورها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وشرق ليبيا وغيرها.

هناك من يقول إن موسكو لا تهتم بالمصالح الحيوية للجزائر في مالي مثلا، وإن الجزائريين أدركوا ذلك متأخرا. الواقع أن الروس لا يهددون مصالح الجزائر ولكنهم لا يوافقون على تحييد مصالحهم أو تأجيلها من أجل عيون أيّ بلد آخر، وهم ومن خلال قراءتهم للواقع يدركون أن الجزائر كانت تحقق مكاسبها على حساب خسائر الأطراف الأخرى، وهو ما لم يعد مقبولا لديهم.

سيكون من المهم طرح ذلك السؤال المزعج عمّا قامت به الجزائر لخدمة المنطقة التي تنتمي إليها: ماذا فعلت بالمغرب العربي؟ وكيف تعاملت خلال السنوات الماضية مع ظاهرة الإرهاب في دول مثل مالي والنيجر وليبيا؟ وهل نجحت فعلا في تكريس علاقات صحية مع جيرانها الأقربين والأبعدين وفي أن تكون عنصر استقرار؟

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: