إن المتابع للشأن الديني في بلجيكا، وللخطاب الديني المنتشر وما يرافقه من أثر وتأثّر وتأثير، يرى بوضوح أزمة قوية الملامح لا تحتاج الى ذكاء أو كثير من العناء.
لقد كان الشأن الديني يعاني من أزمة كبيرة في فترة ما قبل اتهامات وزير العدل البلجيكي لممثلي الشأن الديني بالتخابر و سوء التسيير ، أزمة تمتد إلى اليوم بعدم الاعتراف بالمسجد الكبير ، و هدم كل ما بني منذ عشرات السنين مع الإعلان عن تشكيل “المجلس الاسلامي ببلجيكا “، ليحل مكان “الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا “ في 25 يونيو 2023 ، عندما اعتبر وزير العدل البلجيكي فانسن فان كويكنبورغ. أن هذه المؤسسة “لم تعد قابلة للاستمرار”، وينبغي أن تحل نفسها، بعد حوالي 34 عاماً على تأسيسها عام 1999 بظهير ملكي .
البديل الجديد هو “المجلس الاسلامي ببلجيكا “، الذي تحمل مسؤولية المسلمين ببلجيكا بمباركة وزير العدل دون المسلمين ببلجيكا ، وهو يتكون من 5 اشخاص ، من العدل و الاحسان و اخوان المسلمين، الذين لبسوا قبعة الإخفاء منذ توليهم مهامهم في هذه المؤسسة البلجيكية ، و الذين لم نرى منهم شيئا لحد الساعة و بعد 7 شهور من تمكنهم بزمام الأمور، عكس ماكانوا يزعمونه قبل توليهم هذه المهمة .
و حسب مصادر موثوقة فأغلب هؤلاء المسؤولين ظنوا أن العمل بهذه المؤسسة مؤدى عنه و أنهم سيجنون منه راتبا شهريا الشيء إلا أنهم صدموا بالأمر الواقع و رجعوا بخفي حنين من وزارة العدل البلجيكية عندما علموا ان اسلافهم كانوا يشتغلون كمتطوعين .
لحد الساعة فقد فشل رهان وزير العدل البلجيكي على ان يشكل هذا المنتدى الاتحادات الإسلامية و ضم تحت جناحه كل المساجد ببلجيكا التي ترفض التعامل معه و لا تعترف بهذا المجلس الذي اصبح بمتابة زورق النجاة لوزير العدل السابق بعد تراكم اخطائه في تدبير الشأن الديني ببلجيكا .
وترى أوساط في الجالية الإسلامية أن الدولة البلجيكية حاولت الكثير من أجل تنظيم شؤون الديانة الإسلامية من خلال “الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا “، ولكنها لم تنجح، وعندما قررت إيجاد حل جذري، فإنها ارتكبت خطأ يتمثل في مسألة تعيين أعضاء “المجلس” الجديد من طرف وزير العدل البلجيكي السابق دون الاخذ بعين الاعتبار توجهاتهم الدينية التي بإمكانها تشكيل خطر على الطبقة الناشئة في هذا البلد .
الأمر الذي يضرب مبدأ التمثيلية الديمقراطية من جهة، ويخل بقانون العلمانية القائم على فصل الدين عن الدولة من جهة أخرى، عدا عن أن قرار التعيين يحمل بعداً تمييزياً صارخاً، بالمقارنة مع علاقة الدولة بتمثيليات الديانات الأخرى، فهي لا تستطيع التدخل بتحديد من يمثل المسيحيين، أو اليهود في المؤسسات التي تمثلهم.
دور الأجهزة الاستخباراتية في انقسام الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا
ولعبت الأجهزة الاستخباراتية على هذه المسألة، ما أدى إلى مشاحنات دائمة بين الهيئة التي تعد نفسها المؤسسة التمثيلية الشرعية، والمسجد الذي يعتبر نفسه هو الأساس ومركز الثقل الإسلامي، ولا يمكنه أن ينضوي تحت جناح أي مؤسسة أخرى.
فالمعروف لدى الجالية المسلمة ببلجيكا أن أعضاء اتحاد مساجد الفلاندرن يعملون لأجندات خارجية تتمثل في الدفاع عن مصالح الوهابية السعودية و الامارات حيث أن اغلبهم يصرحون بها في الجلسات و عبر مواقع التواصل الاجتماعي و في بعض الاحيان ضد بلدهم و مصالح بلدهم ، الشيء الذي تابعته الجالية المغربية عند طرد الامام محمد التوجكاني .
و هذا الوضع يطرح السؤال حول دور الدولة وماذا تريد؟ أول ما تهدف إليه السلطات البلجيكية من باب تشجيع الاندماج، هو إيجاد “إسلام بلجيكي “، والحيلولة دون أسلمة بلجيكا، وهذا يتطلب قطع صلات المهاجرين ببلد المنشأ، وعدم التأثر بالعلاقة بين بلجيكا والبلدان ذات الحضور القوي في أوساط الجاليات مثل المغرب وتركيا.
وهذا أمر واضح وملحوظ، لأن مزاج هذه الجمعيات يتأثر إلى حد كبير بعلاقات بلجيكا مع بلدان الأصل، وإذا اختلفت بلجيكا مع المغرب ، يظهر صدى ذلك لدى المسجد الكبير، الذي تهيمن عليه قيادة مغربية .
والهدف الثاني للدولة البلجيكية هو تبني وجهة نظرها، فيما يتعلق بممارسة الشعائر وتأهيل الأئمة، والتي تقوم على عدة قواعد ملخّصها أن الإسلام دين مثل بقية الديانات الأخرى، يمارسه المواطنون البلجيكيون المسلمون ضمن قوانين المملكة وعلى أساس العلمانية.
وهذه مسألة لم تحسمها السلطات كلياً، على الرغم من أنها قطعت شوطاً كبيراً على صعيد التحكم بالاعتراف بالأئمة، وإبعاد من ترى أنهم يحضون على الكراهية، ويصدرون فتاوى تنعكس سلباً على بلجيكا.
من هذه الفتاوى، المتعلقة بالمرأة وتعدد الزوجات والزواج القسري والجهاد، والذي تقول الدولة أنها ساهمت في التأثير على بعض الشباب، الذين التحقوا بصفوف “التنظيمات الإرهابية”، خصوصاً “داعش”، التي ضمت عدة مئات من البلجيكيين من أصول عربية وأفريقية، وبعض هؤلاء كان يتردد بصورة منتظمة على المساجد كمسجد النصر بفيلفورد، ويقيم علاقة مع بعض الأئمة الذين يحرضون على العنف.
والهدف الثالث هو الابتعاد عن أي دور سياسي للجمعيات الإسلامية والمساجد، التي تتخذ مواقف حيال النزاعات في الشرق الأوسط، خصوصاً القضية الفلسطينية.
وتهدف ضغوط الدولة إلى وقف حملات التضامن والتأييد للشعب الفلسطيني، وذلك على غرار ما تقوم به الجمعيات اليهودية لمساعدة اسرائيل.