لغة المصالح تقرّب المغرب من دول منطقة الساحل
جاءت كلمات وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في مالي عبدالله ديوب من مراكش لتختصر روح الفكرة بشاعرية متدفقة وهو يخاطب المغاربة “إن تقديم الماء يعني تقديم الحياة، والمغرب اختار توفير البحر”. فرد عليه نظيره المغربي وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة بالكثير من جزالة المفردة وانسيابية المعنى “نعم.. وذلك ببساطة لأن: أنتم نحن، ونحن أنتم”.
ما قاله ديوب يعبّر عن مشاعر شعوب بوركينا فاسو، مالي، النيجر وتشاد، تلك الدول الحبيسة التي تفوق مساحتها 4 مليون كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانها إلى ما يقرب من 90 مليون نسمة، والتي فتح أمامها المغرب نافذة على المحيط، عبر المبادرة الحكيمة والجريئة والتاريخية التي أعلنها العاهل المغربي الملك محمد السادس في السادس من نوفمبر الماضي، حينما أكد على استعداد بلاده لتقديم دعمه لتلك الدول عبر إتاحة البنية التحتية الخاصة بالطرق والموانئ والسكك الحديد، وشدد على ضرورة تطوير البنية التحتية في دول الساحل وربطها بشبكات النقل والاتصالات الإقليمية لضمان نجاح هذه المبادرة، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة وتحسين التواصل والتجارة بين دول الساحل والعالم الخارجي.
بقدر ما كانت مبادرة الملك الحكيم محمد السادس حيوية وجدية ورؤيوية، بقدر ما كانت الاستجابة سريعة وكان التجاوب من سلطات دول الساحل تلقائيا بأبعاد سياسية مرتبطة بالتحولات الكبرى والمهمة التي تشهدها المنطقة ككل، وهو ما أعطى للمراقبين فرصة للوقوف عند جملة من المعطيات من بينها:
يبدو العقل المغربي الحكيم في منتهى الوعي بطبيعة التحولات الجيوسياسية التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء، وخاصة تلك المتعلقة بروح التحرر التي تشكلت مؤخرا في سياق إصرار شعبي عبّرت عنه القوى الصلبة التي تمكنت من الوصول إلى الحكم
أولا، أن الرؤية الإستراتيجية للعاهل المغربي تنبثق من قراءة واقعية وبراغماتية للوضع القائم في دول الساحل، ومن وعي تام ومتقدم لما سيكون عليه ذلك الوضع على المدى القريب والمتوسط، حيث أن التحولات التي شهدتها تلك الدول خلال الفترة الماضية سيكون لها أثرها على التحولات الاقتصادية والاجتماعية المنتظرة، وعلى ملامح الجغرافيا السياسية التي بدأت في التشكل في ظل تعرض فرنسا لأوسع عملية دحر من مستعمراتها السابقة.
ثانيا، أن مبادرة تعزيز ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي، والتي أطلقها العاهل المغربي بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء، تأتي في إطار استمرارية الالتزام الفاعل والتضامني إلى جانب البلدان الأفريقية الشقيقة، ولكن دون أن تنفصل عن امتدادات التاريخ والجغرافيا والتأثيرات الحضارية والثقافية المغربية في دول الساحل والتي كانت قبل نهاية القرن التاسع عشر تعني عمقا إستراتيجيا مؤثرا وجزءا مهما من تاريخ المغرب.
ثالثا، أن المبادرة المغربية ليست وليدة ردة فعل كما يعتقد البعض، ولا هي محاولة لاستغلال عقوبات على دول الساحل من قبل دول الجوار المرتبطة بمراكز القرار الفرنسي، وإنما فكرة تعود إلى حوالي العقدين، وهي مرتبطة بالمشروع الملكي للاستفادة من موقع المملكة على المحيط الأطلسي سواء من حيث ساحل الأقاليم الجنوبية المحررة، أو من حيث الموانئ التجارية الكبرى التي تم إنجازها خلال السنوات الماضية ودخلت حيز العمل، لاسيما أن المغرب تبنى مخططا إستراتيجيا يقوم على اعتماد الموانئ كرافعة اقتصادية تواكب التوجه العالمي وتتحول إلى محطة أساسية من محطات الطرق السيارة البحرية، كما يتميز المغرب بكونه يتبني مخططا استثماريا يراعي الإمكانيات التمويلية المتاحة ويحدد الأولويات ويجعل من الأطراف المعنية شريكا في رسم معالم الخيارات ومن الموارد البشرية رافعة أساسية ومحورية للتوفر على الكفاءة الضرورية لتنفيذ المشاريع بالجودة والسرعة المطلوبتين.
رابعا، كشفت موجة الانقلابات العسكرية التي شملت مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون وغينيا في فترة زمنية لا تتجاوز الثلاث سنوات، عن أهمية وعمق التأثير المغربي في القارة السمراء وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، حيث أن أغلب القادة العسكريين الذين أمسكوا بمقاليد السلطة في بلدانهم، كانوا قد تخرجوا من الأكاديمية الملكية في فاس، ولديهم معرفة بالمملكة وعلاقاتها مع شعوب المنطقة وبدورها الحضاري وخاصة الديني الوسطي المتجذر في بيئة الاجتهاد، بالإضافة إلى خياراتها الإستراتيجية التي اختار الملك محمد السادس أن يستعيد من خلالها خارطة محطات التاريخ العريق المشرق والروابط العميقة التي طالما شكلت جسورا للتواصل والتضامن والتعاون بين الأشقاء.
وكما أوضح وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة فإن المقاربة التنموية كانت دائما وراء كل تحركات الملك محمد السادس، سواء على المستوى الثنائي مع الدول المكونة لهذه المنطقة، أي مالي وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر، أو كمجموعة، كما أن العاهل المغربي كان دائم الاهتمام بمنطقة الساحل، ومنذ اعتلائه عرش المملكة اتخذ قرارات مهمة لصالح هذه الدول يتعلق أهمها بتمكين دول الساحل من إيصال بضائعها إلى المغرب دون شروط جمركية، وإلغاء كل ديونها.
الرؤية الإستراتيجية للعاهل المغربي تنبثق من قراءة واقعية وبراغماتية للوضع القائم في دول الساحل، ومن وعي تام ومتقدم لما سيكون عليه ذلك الوضع على المدى القريب والمتوسط
يبدو العقل المغربي الحكيم في منتهى الوعي بطبيعة التحولات الجيوسياسية التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء، وخاصة تلك المتعلقة بروح التحرر التي تشكلت مؤخرا في سياق إصرار شعبي عبّرت عنه القوى الصلبة التي تمكنت من الوصول إلى الحكم، والتي اتخذت قرارات مهمة تصب في اتجاه تحرير إرادة الشعوب والمجتمعات وتأميم الثروات الوطنية وطرد مستغليها من بقايا الاستعمار الأجنبي.
وجدت شعوب الساحل اليد المغربية البيضاء وهي تحنو عليها بكل ذلك الدفء والمحبة والأخوة في مواجهة كل محاولات المساس من خيارات تلك الشعوب، وخاصة العقوبات السياسية والاقتصادية والتي كان من بين آلياتها الحصار المالي والتجاري المعلن من قبل دول “إيكواس”، وقد أعرب وزراء خارجية بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد عن تأييد دولهم وانخراطها الكامل في المبادرة الدولية التي أطلقها العاهل المغربي لتعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، والتي تتيح فرصا كبيرة للتحول الاقتصادي للمنطقة برمتها، مشددين على الأهمية الإستراتيجية لهذه المبادرة التي تندرج في إطار تدابير التضامن الفاعل مع البلدان الأفريقية الشقيقة، ومنطقة الساحل على وجه الخصوص، والتي تتيح فرصا كبيرة للتحول الاقتصادي للمنطقة برمتها، بما ستسهم فيه من تسريع للتواصل الإقليمي وللتدفقات التجارية ومن ازدهار مشترك في منطقة الساحل.
جاء الترحيب السريع من قبل حكومات دول الساحل بالمبادرة الملكية ليشير إلى جملة من العناصر المهمة، منها وجود ثقة لا تتزعزع في الإرادة المغربية وفي مبدأ الحزم والجدية المعتمد من قبل الملك محمد السادس، وفي أن القرار الملكي كان مرتبطا على الدوام بالمصالح المشتركة للشعوب وبالجذور الثقافية والحضارية التي لا يمكن تجاوزها، وبالحوار الندي التكاملي البعيد عن منطق التبعية والوصاية أو محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة أو تلك.
منذ عودة المملكة إلى ملء كرسيها في منظمة الاتحاد الأفريقي، نجحت المملكة وبقوة في تكريس دورها كبلد قائد ومحوري في القارة، وكمصدر أصيل لقيم الأصالة والانفتاح والاجتهاد، وتحولت بفضل رؤية الملك الحكيم إلى مركز معتمد للقرار السياسي والاقتصادي في القارة، ونجحت في التوصل إلى تحقيق عدد من الاتفاقيات الإستراتيجية المهمة كالمتعلقة بأنبوب الغاز النيجيري – المغربي والمبادرة الملكية الأطلسية والحلف الأطلسي – الأفريقي.