تزايد عدد الأمهات العازبات في المغرب بشكل ملفت خلال السنوات الأخيرة وزادت معاناتهن نتيجة ما يتعرضن له من ضغوط أسرية ومجتمعية، كما يعاني أطفالهن من عدم القدرة على الولوج إلى المدارس والمستشفيات العامة والعمل في المؤسسات الحكومية، لذلك طالب حقوقيون في البلاد بضرورة إعادة النظر في التشريعات التي تعتبر أطفال الأمهات العازبات “أبناء زنا” وتوفير الحماية اللازمة لهم.
يعول الحقوقيون في المغرب على تعديلات مدونة الأسرة من أجل إنصاف الأمهات العازبات وأطفالهن، وتؤكد المادة 148 من مدونة الأسرة أنه “لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة إلى الأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”.
واعتبر المحامي والحقوقي وعضو جمعية إنصاف محمد ألمو المادة 240 من مدونة الأسرة “مجحفة في حق الأبناء المولودين خارج إطار الزواج”، مشيرا إلى أن “مقتضيات مدونة الأسرة يجب أن يشملها تعديل بما يتناسب مع أحكام الدستور التي تلزم الدولة بتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والأخلاقي لجميع الأطفال بطريقة متساوية، دون اعتبار لحالتهم العائلية”.
ويرى ألمو أن الحل لهذا التمييز في حق الأم العزباء والأطفال المولودين خارج إطار الزواج “هو إعادة النظر في مقتضيات مدونة الأسرة بتعديل النصوص القانونية ذات الصلة، وجعل المرجع في إثبات النسب هو المرجع الجيني، لأنه الحاسم في تحديد البنوة، مع تمتيع هؤلاء الأطفال بجميع الحقوق مثلهم مثل الأطفال الذين ولدوا داخل مؤسسة الزواج”.
وشدد على ضرورة التنصيص على تحمل الأب البيولوجي لمصاريف الحمل ورعاية الأم واستفادتها من الرعاية الاجتماعية أسوة بالمرأة المتزوجة، مع إعادة النظر في نظام التبني، وإعادة النظر في مفهوم الخطبة على أساس أن أغلب ضحايا هذا الوضع هن نساء ضحايا وعود كاذبة، مقترحا إبرام عقد نية الزواج في الخطبة، وتوسيع مفهوم الأسرة ليشمل الأسر أحادية الوالدين.
المدونة يجب أن تعدل بما يتناسب مع أحكام الدستور التي تلزم الدولة بتوفير الحماية لجميع الأطفال بطريقة متساوية
وتعاني الأمهات العازبات وأطفالهن الذين يحرمون من الهوية والوثائق الثبوتية، حيث تواجههم الإدارات المغربية بالرفض، لاسيما أثناء التسجيل في المدرسة، أو التوجه للتطبيب في المستشفيات العمومية، أو أثناء الرغبة في إعداد ملف بطاقة التعريف الوطنية، فيجدون أنفسهم خارج أقسام الدراسة، كما أنه لا يمكنهم أن يشتغلوا في الوظائف العمومية أو شركات القطاع الخاص، لعدم توفرهم على ما يثبت هويتهم إلى جانب النظرة الدونية التي تلاحقهم.
ورغم غياب الأرقام الرسمية الدقيقة بخصوص عدد الأمهات العازبات في المغرب إلا أن جمعية إنصاف بمدينة الدار البيضاء قدمت أرقاما خلال ندوة حول “إشكالية الأمهات العازبات”، تؤكد أن هناك أزيد من 800 أم عزباء ينتمين إلى الدار البيضاء ومحيطها وتتراوح أعمارهن بين 16 و17 عاما فقط، وأن عدد الأمهات العازبات تزايد بشكل مضاعف في السنوات الأخيرة عكس سنوات الثمانينات، حيث اعتبر المتدخلون أن أغلبهن ضحايا الاغتصاب أو إغراءات كاذبة أو وعود بالزواج، وأبشع أنواع التمييز والعنف في المجتمع وإنكار القانون هوية أطفالهن.
وتطالب الجمعيات الحقوقية بضرورة إعادة النظر في التشريعات القانونية، التي تعتبر الأطفال المولودين خارج نطاق الزواج الشرعي “أبناء زنا”، لأن المغرب قطع أشواطا طويلة في المصادقة والالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما يجب أن يتبلور على مستوى ميداني تشريعيا وإجرائيا، فجمعية التحدي للمساواة والمواطنة تقول إن ملف الأمهات العازبات لم يعد من الملفات المسكوت عنها في المغرب، وبالرغم من هذا التعايش يلاحظ وجود مجموعة من الممارسات التمييزية والتحقيرية والعنصرية داخل المجتمع.
وأكدت الكاتبة العامة لجمعية إنصاف أمينة خالد أن “الأم العزباء فتاة أرغمت على الأمومة وأصبحت أما لها مسؤولية بدون استشارتها ، في غياب لأي سند أسري أو من طرف المحيط”، وأنه منذ ثلاثة عقود اهتم المجتمع المدني بقضية الأمهات العازبات وتعد أغلبيتهن ضحايا كن سابقا ينتمين إلى البوادي.
الجمعيات الحقوقية تطالب بضرورة إعادة النظر في التشريعات القانونية، التي تعتبر الأطفال المولودين خارج نطاق الزواج الشرعي “أبناء زنا”
وكشفت أمينة خالد أنه في سنوات العقد الأخير تبين أن “عدد الأمهات العازبات تجاوز 1600 أم في سنة 2020 أغلبهن ينتمين إلى المدينة أي إلى المحيط الحضري، وأغلبهن لهن مستوى دراسي يتراوح بين الإعدادي والثانوي وقليل منهن لهن تعليم جامعي، كما انضافت إلى المغربيات أمهات عازبات من السيدات المهاجرات بالمغرب”.
واعتبرت جمعية إنصاف أن “الأمهات العازبات يتشردن في العديد من الحالات، إلا في حال لجوئهن إلى جمعيات تتكفل بهن وبأطفالهن، وأن العنف الذي يتعرضن له قد يكون من طرف أسرة تستغل الأم العزباء للعمل لديها، أو من مافيات في حال ظلت مشردة، كما يتعرضن للسب والقذف أثناء توجههن إلى المستشفى للعلاج أو للولادة وتتم مساءلتهن ومحاسبتهن من أطر المفروض فيها توفير العلاج والسهر على صحة المريض”.
وفي شهادتها قالت إحدى الفتيات التي أصبحت أما خارج إطار الزواج إنها صارت أما لطفل يبلغ اليوم 10 أشهر، بعد تعرضها للاغتصاب من ابن الجيران، ولم تغادر الواقعة ذهنها.
وقالت الفتاة التي لم تفصح عن اسمها، في شهادتها أمام الحاضرين في الندوة التي نظمتها جمعية إنصاف لمناقشة “إشكالية الأمهات العازبات”، “كنت أعمل في الدار البيضاء كمساعدة في المنازل لأن أسرتي فقيرة، وأشتغل لمساعدة والدي على شراء دواء مرضه المزمن، وذات مرة اتصل بي والدي وأخبرني بأنه زارنا خطاب يطلبون يدي منه، وأقنعني أبي في الهاتف بأن الزواج وتكوين أسرة أفضل لي من التشرد في البيوت كعاملة“.
“اقتنعت بكلام أبي، وعدت إلى البيت”، تقول الشابة، “وعند وصولي دخلت ابنة الجيران وقالت لي إن أمها تريدني عندها فذهبت إليها، وإذا بي أتفاجأ بشخصين يمسكان بي وتعرضت للاغتصاب رغما عني… لم أستوعب ما حدث ومن هول الصدمة أخذت أمتعتي وقلت لوالدي إنني لا أريد الزواج وعدت للعمل كمساعدة في الدار البيضاء ولم أتجرأ على اللجوء إلى الشرطة“.
وضعية الأم العزباء داخل المجتمع مزرية، وحالتها النفسية منهارة بفعل الضغط الاجتماعي والأخلاقي
وتتابع “بعد فترة اكتشفت حملي فاتصلت بالشخص الذي اغتصبني وأخبرته بالأمر، فأنكر جريمته ورفض الاعتراف بالجنين، وتعرضت منه وأسرته للتهديد بالقتل، وبعد مدة عدت إلى منزل والدي ووعدني المغتصب بالزواج والاعتراف بطفله الذي يبلغ اليوم 10 أشهر، لكنني اكتشفت أنه كان يستهزئ بي”.
ويقول باحثون في علم الاجتماع إن وضعية الأم العزباء داخل المجتمع مزرية، وحالتها النفسية منهارة بفعل الضغط الاجتماعي والأخلاقي، ذلك أن النظرة السائدة حولها تصنفها في خانة المقترفة للفواحش، وهو ما أدى بها إلى الخروج على ما هو متعارف عليه في الثقافة المحلية.
ووضحت أمينة خالد أصنافا متعددة للعنف الذي تتعرض له الأم العزباء من ناحية السكن، “فالأم العزباء مرفوضة دائما من الجيران لأنهم لا يتقبلونها، وإن تم القبول بها تتعرض للتمييز في معلوم كراء المسكن، ثم تعاني الأم العزباء أثناء توجهها إلى العمل ولا تجد أين تضع ابنها”.
من جهته تطرق ألمو إلى مجموعة من الصعوبات التي تعترض الأمهات خارج إطار الزواج، من ذلك أن “المشرع لا يعترف بحق أطفالهن في الهوية، إلى جانب الإيواء الذي اعتبره من أكبر المشاكل التي تعانيها الأمهات العازبات مع أطفالهن”.
وشدد على أن “القانون يجب أن يمنح حق نسب الطفل لوالده البيولوجي، والاعتراف بجميع حقوقه في النفقة والرعاية وباقي الحقوق الأخرى”، مستغربا “استمرار وصم اجتماعي نتيجة تمثلات المجتمع الذي يرفض التعاطي مع هذه الفئة، كما أن بعض الجمعيات تتعامل بانتقائية مع هذه القضية”.
وقبل ست سنوات وفي سابقة أصدرت المحكمة الابتدائية بطنجة أقصى شمالي المغرب أول حكم قضائي في تاريخ البلاد يقرّ بحق طفلة مولودة خارج إطار الزواج بالانتساب إلى والدها، وبعد سبعة أشهر ألغت محكمة الاستئناف في المملكة هذا الحكم.
وقال ألمو إن “تعاطي القانون مع هذه الحالات فيه نفاق وتحايل على الالتزامات الدولية”، معتبرا أن “مدونة الأسرة تعاقب الطفل لأنه نتيجة علاقة لا مسؤولية له فيها”، ذاكرا “المادة 146 التي تنص على أنه تستوي البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية، بينما لا تترتب البنوة على الأب في العلاقة غير الشرعية”.
ورغم البعد الإنساني الذي يستند إليه المدافعون عن حقّ المولود خارج إطار الزواج في الحصول على نسب والده، إلا أن علي الشعباني الأستاذ الباحث في علم الاجتماع يعترف بوجود “جوانب سلبية تمس العلاقة بين الأبناء والآباء، والأسرة عموما”، موضحا، أن “المنظومة الاجتماعية مبنية على العديد من الثوابت المتعلقة بالحضانة ورعاية الأبناء والتربية والإرث، ولذلك فإن جميع هذه المفاهيم يمكن أن تندثر أو تتغير في حال تبدّلت بعض الثوابت المؤطرة للمجتمع“.
كذلك تتعرض الأم العزباء بحسب أمينة خالد “لتمييز من طرف المرفق الإداري، وتميز قانوني وغيره، أما بالنسبة إلى الأب البيولوجي فلا أحد يتحدث عنه، في حين أنه يجب تحمله المسؤولية تجاه الطفل وتجاه أم طفله في فترة حملها وتحمل نفقة الطفل”.
ولهذا دعا علي الشعباني إلى ضرورة فتح نقاش علمي حول الظاهرة، يشمل جانبها القانوني والاجتماعي والديني، مشيرا إلى غياب معطيات دقيقة يمكن جمعها من خلال الاختلاط بالأمهات العازبات للوقوف على وضعهن الاجتماعي والاقتصادي والظروف النفسية التي يمررن بها داخل المجتمع الذي يرفضهن.