هزيمة الفرانكوفونية السياسية والثقافية في أفريقيا
تواجه فرنسا امتحانا صعبا لنفوذها السابق في القارة السمراء، ومع كل يوم جديد تقريبا تستيقظ على ضربات قاصمة تستهدف حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي، ليس فقط من خلال القرارات الحكومية الصادرة في هذه العاصمة أو تلك، ولكن، وهذا الأهم، أنها تعبّر عن إرادة شعبية واسعة كما حدث في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، وقد يحدث في أيّ بلد آخر خلال الفترة القادمة التي يبدو أنها ستكون حبلى بالمفاجئات.
مع بداية العولمة، عادت المجتمعات المحلية للانكفاء حول خصوصياتها الثقافية لتحصينها من الاندثار، وتبين ذلك بالخصوص في دول الساحل والصحراء، مع تشكل رأي عام واسع حول تراجع موقع اللغة الفرنسية خصوصا وأن التطور العملي والتكنولوجي بات مرتبطا بلغات أخرى غيرها، ومناطق التطور المالي والاقتصادي مثل شرق أفريقيا والخليج العربي وجنوب شرق آسيا تعتمد بالأساس على الإنجليزية التي تعتبر أكثر اللغات استخداما حول العالم وتعرف بأنها لغة العصر ولغة التكنولوجيا، ويستخدمها ويتكلّم بها أكثر من مليار و500 مليون متحدّث، كلغة أصليّة أو كلغة ثانويّة بنسبة تقارب الـ25 في المئة من سكان العالم.
ومع الانتشار الواسع لحركات الإسلام السياسي في الساحل والصحراء، برزت فرنسا كأهم عدوّ لها، وتم النظر إليها على أنها الحصن الحصين للدفاع عن الاستبداد والمستبدين، كما تم الربط بينها وبين العلمانية واللائكية ومختلف الأفكار الفلسفية التي يعتبرها الإسلاميون معادية للدين.
ثم جاءت مواقف الحكومة الفرنسية من قضايا مثل ارتداء العباءة والحجاب والتضييق على الجماعات المتشددة ليتم الترويج لها على أنها حرب على الإسلام والمسلمين، وقد نجحت منابر الإعلام التركي والقطري والإخواني عموما في توجيه الرأي العام المسلم في أفريقيا ضد فرنسا والفرنسية، كما كان لسيطرة المتشددين على المساجد والمنابر الدينية في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغيرها دورها في نشر خطاب مناهض بقوة للحضور الفرنسي المتهم بأنه سبب كافة الكوارث التي تعيشها شعوب تلك الدول.
هناك توجه واضح لقطع دابر الحضور الفرنسي في أفريقيا، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومنتظر، لأن فرنسا لم تحرص على أن تكون لها علاقات صحية مع الأفارقة في بلدانهم، ولم تحترم خياراتهم وخصوصياتهم
كما لا يمكن التغافل عن ظاهرة بدأت تتشكل بقوة، وهي العودة إلى شعارات التحرر الوطني بهدف العمل على اجتثاث الاستعمار وعملائه المتهمين بالفساد والإفساد والتبعية للأجنبي والدوس على حقوق السكان المحليين ومحاولة طمس الهويات الثقافية للشعوب الأصلية، وتم النظر من خلال هذا المنطلق إلى الغرب عموما، على أنه لا يزال استعماريا في عقيدته السياسية، وأنه مصدر الاستغلال والانتهازية والجشع والإرهاب والتقسيم والتجزئة، فيما أصبحت هناك نظرة إيجابية لروسيا كدولة يمكن أن تكون حليفة تتعامل مع الأفارقة باحترام وندية، وهناك تحرك كبير للصين في مجالات التعاون الاقتصادي والتنمية والاستثمار، مع تمدد تركي لم يعد خافيا على أحد، وهو يتراوح بين الاقتصاد والثقافة والأمن والتسليح والتغلغل في الأوساط الشعبية ليس فقط بنظرية التوسع الإستراتيجية، ولكن كذلك بالعمل على دحر الجانب الفرنسي من مواقعه القديمة في إطار صراع مرير على النفوذ.
وبحسب دراسة لليونسكو فإن عدد مستعملي الفرنسية عبر العالم لا يتجاوز 321 مليون نسمة، وهي اليوم تحتل المرتبة الخامسة عالميا بعد اللغات الصينية والإنجليزية والإسبانية والعربية. وهناك دراسات أخرى تضعها في المرتبة التاسعة عالميا، واعترف الرئيس إيمانويل ماكرون أن استعمال اللغة الفرنسية تراجع في دول المغرب العربي مقارنة بوضعها قبل 20 أو 30 عاما، داعيا إلى ضرورة استعادة مكانتها من خلال برامج التعليم والثقافة والرياضة وشبكة تعليم الفرنسية في العالم، لكن هذا الدعوة باتت تواجه رفضا واسعا لاسيما في ظل التمرد الذي بدأ يتفاقم ضد سياسات فرنسا وعنجهيتها وخاصة في دول غرب أفريقيا.
تميز الاستعمار الفرنسي إلى جانب استغلال الموارد الطبيعية بالتركيز على التأثير الثقافي على الدول والمجتمعات التي أخضعها لهيمنته، ونجح في فرض لغته على الكثير من الشعوب وخاصة في منطقة الساحل والصحراء لتتحول إلى لغة رسمية أولى جامعة بدلا من اللغات المحلية الكثيرة المنتشرة بين العرقيات والقبائل المختلفة.
وإلى وقت قريب كانت الفرنسية اللغة الرسمية الوحيدة في 11 دولة أفريقية، وثاني لغة في 10 دول أخرى، وهي أيضا اللغة الرئيسية أو لغة التعليم الوحيدة في مدارس بنين، بوركينا فاسو، جمهورية أفريقيا الوسطى، جزر القمر، جمهورية الكونغو، الكونغو الديمقراطية، ساحل العاج، الغابون، غينيا، مالي، النيجر، السنغال وتوغو. لكن هذا الوضع تغير بشكل سريع، ففي السادس من ديسمبر الجاري صادقت حكومة بوركينا فاسو على مشروع قانون مراجعة دستور البلاد، والذي يقرّ اعتماد اللغات الوطنية في بوركينا فاسو كلغات رسمية بدلا من اللغة الفرنسية، التي سيتم تغيير تعريفها من لغة رسمية إلى “لغة عمل”.
وبموجب الدستور الجديد الذي جرى التصديق عليه بأغلبية ساحقة بنسبة 96.91 في المئة من الأصوات في استفتاء 18 يونيو الماضي، لم تعد الفرنسية هي اللغة الرسمية في جمهورية مالي، وإنما ستكون لغة العمل فقط، فيما ستحصل اللغات الوطنية الـ13 التي يتحدث بها مواطنو الدولة على وضع اللغة الرسمية.
وفي أكتوبر 2021، انسحبت الغابون من منظمة الدول الفرانكوفونية، والتحقت بمجموعة الكومنولث (الناطقة بالإنجليزية). وبرر وزيرها الأول آنذاك هذه الخطوة بكون اللغة الفرنسية “لم تعد تساير التحولات التكنولوجية والمعرفية والتنموية الطارئة في العالم”. وقد اتخذت الغابون رواندا مثالا لها، بالنظر إلى التقدم الذي تحرزه رواندا في عدد من المجالات بعد تخليها عن الفرنسية.
وباتت رواندا مثالا متميزا للتنمية والرقي في القارة الأفريقية بعد أن كانت واحدة من أفقر دولها، ويرد البعض جانبا مهما من أسباب نهضتها إلى قرارها في العام 2003 التخلي عن اللغة الفرنسية واعتماد اللغة الإنجليزية ردا على دور باريس في الإبادة الجماعية بحق إثنية التوتسي التي جرت في رواندا بين أبريل ويوليو 1994.
لا يمكن التغافل عن ظاهرة بدأت تتشكل بقوة، وهي العودة إلى شعارات التحرر الوطني بهدف العمل على اجتثاث الاستعمار وعملائه المتهمين بالفساد والإفساد والتبعية للأجنبي ومحاولة طمس الهويات الثقافية للشعوب الأصلية
في دولة أخرى هي الغابون، أعلن متحدث باسم الرئاسة، في أكتوبر 2012، أن بلاده، التي تستخدم الفرنسية كلغتها الرسمية، تدرس اتّباع الخيار الذي سلكته رواندا، والتحول إلى اعتماد اللغة الإنجليزية. كان هناك شعور عام بأن المستعمرات البريطانية السابقة استطاعت أن تواكب حركة التطور العالمي عكس المستعمرات الفرنسية التي بقيت تعاني الفقر والمرض والتخلف والاستغلال الاقتصادي ونهب الثروات، حتى أن البعض يتهم فرنسا بأنها لم تغادر مستعمراتها إلا بعد أن نصّبت عليها نخبا سياسية واقتصادية وثقافية خاضعة لأوامرها.
خططت فرنسا لوضع يدها على مستعمراتها السابقة إلى ما لا نهاية، وعملت بكل قواها على استغلال نفوذها في نهب الثروات الطبيعية. عندما حصلت 14 دولة أفريقية على استقلالها في العام 1960 فرضت عليها باريس استخدام عملة موحدة وهي الفرنك الأفريقي الذي يطبع في البنك المركزي الفرنسي ويرتبط باليورو.
تنظر شعوب المستعمرات الفرنسية السابقة إلى باريس على أنها سبب تخلفها، والدافع الأصلي لخيباتها، وراعية الدكتاتوريات التي أمسكت بمقاليد الحكم بعد الاستقلال، وقاتلة القادة الوطنيين الذين حاولوا تحرير أوطانهم من بقايا الاستعمار مثل باتريس لومومبا وتوماس سنكارا وماريان ناغوابي، والمسؤولة الأولى عن بث الفوضى في عدد من الدول الأفريقية حيث تدخلت عسكريا في أفريقيا أكثر من 50 مرة منذ 1960 واغتالت وأطاحت بما يقارب من 22 رئيسا، بالإضافة إلى تاريخ حافل من نهب الثروات عبر شبكات مرتبطة مباشرة بمراكز القرار في باريس، وهو ما يجعل الشعوب ترى أن كل مصائبها ومآسيها إنما هي نتاج التدخل الفرنسي المباشر وغير المباشر.
وتتولى فرنسا الإشراف على تصدير 80 في المئة من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في أفريقيا نحو القارات الأخرى، فيما يتم أكثر من 80 في المئة من عمليات تعدين الذهب في العالم في القارة الأفريقية ويتم استخراج 70 في المئة من ألماس العالم من مناجمها.
في العام 1957، رأى الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران عندما كان لا يزال وزيرا في الجمهورية الرابعة أن “دون أفريقيا، فرنسا لن تملك أيّ تاريخ في القرن الحادي والعشرين”، وتحدث الرئيس جاك شيراك عن علاقات بلاده بالقارة السمراء قبل أن يستدرك “لكننا نسينا شيئا واحدا فقط، وهو أن جزءا كبيرا من الأموال الموجودة في خزانتنا يأتي على وجه التحديد من الاستغلال لقرون لقارة أفريقيا”.
حاليا هناك توجه واضح لقطع دابر الحضور الفرنسي في أفريقيا، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومنتظر، لأن فرنسا لم تحرص على أن تكون لها علاقات صحية مع الأفارقة في بلدانهم، ولم تحترم خياراتهم وخصوصياتهم كما يجب أن يكون الاحترام، ولم تلتزم في يوم من الأيام بشعار الحرية والمساواة والأخوة. فقط التزمت بمصالحها، وأغمضت عينيها عن حقيقة مهمة وهي أن هناك تحولات قادمة في الطريق لأن الشعوب لن تقبل الصمت إلى الأبد على كرامتها المسلوبة وثرواتها المنهوبة.