ما الذي توقعه أحمد الشرعي حين كتب ساعات قليلة بعد السابع من أكتوبر الماضي في موقع «جيروزاليم ستراتيجيك تريبيون» مقالا بعنوان «كلنا إسرائيليون» تحدث فيه عن بعض ما جرى للمستوطنين الصهاينة بعد هجوم المقاومة الفلسطينية عليهم في ذلك اليوم، مبديا تضامنه معهم وواصفا حركة حماس بـ»الجماعة الإرهابية»؟ هل كان ينتظر من المغاربة أن يخرجوا من جلودهم ويغيروا أسماءهم ويتنصلوا من جذورهم ويقبلوا بما قاله؟ وهل كان يتوقع أن تنهال عليه الإشادات من كل حدب وصوب؟ أم أنه كان يأمل بأن يرشح للفوز مثلا بجائزة نوبل للسلام؟ أو أن تقدم له أكبر الاستحقاقات والأوسمة العالمية؟ أو أن تحوز شركاته الإعلانية والإعلامية على عقود وصفقات كبرى من جانب جهات غربية ستروقها حتما تلك الكلمات؟
المؤكد في كل الأحوال، أن رجل الأعمال المغربي لم ينتبه بالقدر المطلوب إلى أنه كان يسير في الاتجاه المعاكس تماما لا لمبادئ وقناعات شعبه، بل حتى لتوجهات وسياسات حكومته. لقد غابت عنه واحدة من البديهيات الأولية، التي كان من المفترض أنه وبحكم وجوده داخل المغرب سيكون قادرا على معرفتها بسهولة. فحالة الالتباس في هذا الجانب لا تحصل في الغالب إلا مع من يعيشون عادة في الخارج. وقسم واسع من هؤلاء صدمه، بلا شك، أنه في الرباط وليس في عاصمة أخرى من عواصم الشمال الافريقي خرجت أكبر وأضخم مظاهرة لدعم وتأييد الفلسطينيين.
ما لا يعرف بعد هو إن كان المغاربة قد حاولوا ومن وراء الكواليس لعب دور ما من أجل وقف حملة الإبادة المستمرة في القطاع.. الثابت هو أنهم لم ينسوا فلسطين
ومع ذلك فإن ما تؤاخذ عليه الدولة المغاربية الوحيدة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب اليوم، هو عدم إقدامها بعد السابع من أكتوبر لا على قطع تلك العلاقات بشكل آحادي الجانب، ولا على استدعاء سفيرها المعتمد هناك أسوة بما فعله الأردن مثلا، احتجاجا على «الحرب المستعرة على قطاع غزة وتعبيرا عن الموقف الأردني الرافض للحرب على القطاع»، ولا على الإعلان أيضا، كما فعلت البحرين عن «مغادرة السفير الإسرائيلي لأراضيها، وعودة سفيرها من إسرائيل، إضافة إلى وقف كل العلاقات الاقتصادية مع الدولة العبرية»، وهذا ما يطرح سؤالا جوهريا حول ما إذا كان ذلك يعني أن المغرب قد يؤيد ضمنا أو يبارك المجازر والانتهاكات وجرائم الحرب التي يقترفها الإسرائيليون منذ أكثر من أربعين يوما في غزة، إن ذلك ما لا يمكن تصديقه. فالأصوات القليلة التي خرجت لتبرر تلك الأعمال الشنيعة وتهاجم المقاومة، ظلت محدودة ومحصورة في عدد قليل جدا من الأفراد. ولعل كثيرا من المغاربة تساءلوا على مواقع التواصل الاجتماعي بوجه خاص عن سر اختفاء الروائي المعروف الطاهر بن جلون، الذي كتب في مجلة «لوبوان» الفرنسية أن «ما قامت به حماس خلال هجومها على إسرائيل لم تكن لتفعله الحيوانات»، وأن رجال المقاومة «بلا ضمير بلا أخلاق وبلا إنسانية» وطالبوه بالخروج عن صمته على جرائم الإبادة التي يمارسها الإسرائيليون بلا رقيب ولا حسيب في قطاع غزة. وأقل ما قاله له إدريس صقلي عدوني القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي هو «كن شجاعا وصادقا، فقلمك يسعفك أن تقول الحقيقة، وتشهد على ما يقع، شهادة الكاتب والمفكر الرصين». وليست البيانات العديدة التي أصدرتها الخارجية المغربية، والتي شددت فيها على أن «الأعمال التصعيدية الإسرائيلية تتنافى مع القانون الدولي والقيم الإنسانية المشتركة، وتنذر بتمدد الصراع داخل الأراضي الفلسطينية، واتساع رقعة العنف بشكل خطير، ليشمل مناطق مجاورة مهددا أمن واستقرار المنطقة بأسرها»، هي وحدها الدليل على أن المغرب الرسمي لا يمكنه القبول بتلك الجرائم، بل أيضا دخول علاقاته مع تل أبيب في حالة سبات ظرفي قد يطول ويمتد، ليتحول في وقت ما إلى موت سريري. وربما قد يغفل البعض هنا عن أمرين مهمين وهما أنه سبق للمغرب وفي أكتوبر 2000 أن قطع علاقاته الدبلوماسية مع الإسرائيليين في أعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية، ثم إنه كان حريصا عند استئنافها بعد عشرين عاما على أن يشدد مثلما جاء حينها في نص بيان للديوان الملكي على أنه «يدعم حلا قائما على دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في أمن وسلام، وأن المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تبقى هي السبيل الوحيد للوصول إلى حل نهائي ودائم وشامل لهذا الصراع»، وأن تلك العلاقات لن «تمس بأي حال من الأحوال الالتزام الدائم والموصول للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة وانخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم في منطقة الشرق الأوسط».
لقد كان الجميع على علم بالظروف التي أقدم فيها المغاربة على التوقيع على اتفاقيات إبراهام التي أفضت إلى إعادة العلاقات مع تل أبيب. غير أنه كان من الضروري أن يضع المغرب خطوطا حمرا أمام تلك العلاقات. فقبل عام من الآن جدد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، وفي جلسة برلمانية التأكيد على أن «القضية الفلسطينية عندنا في مرتبة مساوية لقضية الصحراء المغربية»، وأن العمل على ترسيخ مغربية الصحراء لن يكون أبدا على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقد يقول البعض إن ذلك لم يعد كافيا اليوم وإن المعادلة التي كانت قبل السابع من أكتوبر لم تعد هي نفسها بعده، وإن بعض البيانات المغربية لم تفرق بين الضحية والجلاد، حين أشارت مثلا إلى رفض المس بالمدنيين من الجانبين، ولكن هل ننظر لنصف الكأس الملآن، أم نكتفي فقط بالنظر إلى نصفها الفارغ؟ وبمعنى آخر هل يعتبر عدم اصطفاف الرباط وراء المعسكر الغربي الذي يدعم تل أبيب ويقف خلفها بقوة، ورفضه النسج على منوالها وترديد «كلنا إسرائيليون» نقطة إيجابية في حد ذاتها بالنظر إلى تشابك وتقاطع مصالحه بشكل كبير ووثيق مع دوله على خلفية بقاء ملف الصحراء التي هي قضيته الوطنية الأولى مفتوحا؟ أم أن عدم إطلاقه لتصريحات قوية، أو حتى عدم إقدامه حتى الآن على قطع العلاقات مع الإسرائيليين يبقى وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى نقطة سلبية؟ يبدو الحسم بين الرؤيتين صعبا على ضوء معطيين مهمين وهما، غياب تصور أو موقف عربي جماعي مما يصطلح عليه «التطبيع» مع استمرار حالة الانقسام الحاد حول مسألة الحفاظ على علاقات مع الإسرائيليين أو قطعها، ثم تعرض الأنظمة العربية من جانب آخر إلى ضغوط مختلفة الأنواع والأشكال من أجل تجريم المقاومة ووصمها بالإرهاب. ولعل ما قاله أمين عام حزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران في المؤتمر الخطابي الذي عقده حزبه الأحد الماضي في الرباط تضامنا مع غزة من أن «الشعب المغربي لم يكن أبدا مع التطبيع، ولن يمكنه أن يكون معه والدولة لها إكراهاتها وهذا شأنها»، يعكس إلى حد كبير جانبا من الصورة، لكن ما لا يعرف بعد هو إن كان المغاربة قد حاولوا ومن وراء الكواليس لعب دور ما من أجل وقف حملة الإبادة المستمرة في القطاع. الثابت هو أنهم لم ينسوا فلسطين.