تقترب الجزائر من إرسال سفيرها الجديد إلى مدريد لشغل المنصب الشاغر منذ 19 شهرا، تمهيدا لإعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، كما يتمنى أصحاب القرار في الجزائر. ونعتقد أن عودة السفير دون تحقيق الهدف الذي على أساسه تم سحب السفير السابق سعيد موسي وتحويل مقر عمله إلى باريس، إخفاق سياسي ودبلوماسي يكرس فكرة أن النظام الجزائري ظاهرة صوتية ولا يمتلك النفس الدبلوماسي الطويل للوصول إلى أهدافه التي سطرها.
قبل عام من الآن أعلنت الجزائر أن عودة سفيرها إلى مدريد مرهونة بتقديم الحكومة الإسبانية “توضيحات مسبقة” بشأن الأسباب التي جعلتها تغير موقفها من قضية الصحراء ليصب في صالح المغرب. وأكد المبعوث الخاص المكلف بالمغرب العربي في وزارة الخارجية الجزائرية عمار بلاني، آنذاك، أن الأمر ليس مسألة “غضب مؤقت للجزائر” سيزول مع مرور الوقت.
قرار آخر يضاف إلى أعداد من القرارات الاندفاعية تكشف مدى ضعف الدبلوماسية الجزائرية بعد أن استنفدت شحنة الغضب على بيدرو سانشيز وبعد أن يئست من أن تغيّر الحكومة الإسبانية موقفها من الصحراء، قررت السلطات الجزائرية عودة سفيرها إلى مدريد، وكأن شيئا لم يقع، وكأنهم لم يضعوا شروطا وتشددوا فيها.
يبدو أن أصحاب القرار في الجزائر يفتقرون إلى حدس قوي وفعال بالنسبة إلى مستقبل بلدهم ونظامهم. فماذا سيقول المواطن البسيط عن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، الذي صرح بثقة في النفس في أحد حواراته، بأن الجزائر لا مشكلة لها مع إسبانيا، وعلاقاتها جيدة مع العائلة المالكة والشعب الإسباني، المشكلة مع رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز.
مبادرة الملك محمد السادس رسالة إلى الجزائر التي كانت تطمح إلى ممرّ نحو الأطلسي عبر دعم بوليساريو، ونقطة نظام تجاه إسبانيا توضح الطبيعة الإستراتيجية للحليف المغربي الذي تجمعهم معه مصالح سياسية واقتصادية وأمنية هائلة
مع قرار قصر المرادية عودة السفير إلى مدريد تصبح تصريحات الرئيس والمبعوث الخاص المكلف بالمغرب العربي في وزارة الخارجية الجزائرية عمار بلاني بلا قيمة دبلوماسية وبلا أدنى أثر قانوني أو سياسي، خصوصا بعد استعادة ما قال بلاني بأن عودة السفير الجزائري إلى مدريد “ستُقرر سياديا من قبل السلطات الجزائرية في إطار إيضاحات مسبقة وصريحة لإعادة بناء الثقة المتضررة بشكل خطير على أسس واضحة ومتوقعة ومطابقة للقانون الدولي”.
النتيجة على المستوى السياسي والدبلوماسي لا شيء، إذ أن النظام لم يستطع تحقيق توازن بين الورقة التي ضغط بها وهي الغاز والهجرة، وبين الظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية غير المواتية التي أفرغت الضغط الجزائري من قوته ووزنه على طاولة المساومة.
التقارب المغربي – الإسباني أثار غضب الجزائر، التي هي على خلاف مع الرباط حول مجموعة متنوعة من القضايا وعلى رأسها قضية الصحراء، إلى درجة أن الجزائر أغلقت خط أنابيب الغاز بين المغرب وأوروبا في أكتوبر 2021 في محاولة لخنق وصول المغرب إلى الغاز الطبيعي، قرار باء بالفشل بعدما عكست إسبانيا ضخ الغاز من نفس الأنبوب في اتجاه المملكة.
ردا على تغيير موقف إسبانيا بشأن الصحراء الغربية، خرقت الجزائر نفس قواعد اللعبة من خلال التهديد بوقف شحن الغاز إلى إسبانيا، واستدعت سفيرها في إسبانيا، وعلقت معاهدة الصداقة التي دامت عقدين من الزمن معها.
دائما ما كانت قرارات النظام الجزائري تأتي نتائجها عكس ما يخطط له، فالضرر كان بالغا على الشركات الجزائرية التي تتعامل مع نظيرتها الإسبانية التي تصدر بشكل رئيسي إلى الجزائر المتخصصة في المنتجات الصيدلانية المستخدمة في تصنيع الأدوية والأجهزة الكهربائية والوقود والمنتجات الورقية والبلاستيك والآلات.
فشلت الخطة حتى مع البرتغال بعد استنفاد محاولاتها مع إسبانيا لتغيير موقفها بشأن الصحراء المغربية، بل الأكثر إثارة أن الدول الثلاث المغرب وإسبانيا والبرتغال ستكون مسرحا لحدث كروي عالمي بعد ست سنوات من الآن، لا شك ستتابعه نخبة النظام الجزائري من ملاعب الدول التي حاول الضغط عليها بورقة الطاقة والغاز لتغيير موقفها من سيادة الرباط على كامل ترابها.
نتساءل كيف سيكون رد فعل الجزائر بعد تزايد عدد دول الاتحاد الأوروبي التي تتبنى نفس الموقف الإسباني بدعم اقتراح الحكم الذاتي، هل ستسحب طاقمها الدبلوماسي من كل دولة اقتنعت بمبادرة المغرب لحل المشكلة المفتعلة حول الصحراء المغربية؟
المغرب وظف أوراقه بقوة وثبات وحزم حتى تتراجع مدريد عن دعم بوليساريو، وكانت خطواته محسوبة وتراعي المتغيرات والتحولات الطارئة في المنطقة والعالم، وكان تعميق تواجده أفريقيا أهم تحركات الملك محمد السادس، واستعادة مقعده داخل الاتحاد الأفريقي عام 2017، ونجاحه في إقناع موجة من الدول بفتح قنصليات في الأقاليم الجنوبية، ما يشير إلى قبولها مطالبة المغرب بالسيادة، وهو ما مثل ضربة للسياسة والدبلوماسية الخارجية الجزائرية، ونقطة قوة مغربية على طاولة المفاوضات مع الجانب الأوروبي ومنه إسبانيا.
دائما ما كانت قرارات النظام الجزائري تأتي نتائجها عكس ما يخطط له، فالضرر كان بالغا على الشركات الجزائرية التي تتعامل مع نظيرتها الإسبانية
في خضم الخلاف الجزائري مع إسبانيا بذلت وزارة الخارجية الجزائرية جهودا حثيثة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إيطاليا، التي زارها عبدالمجيد تبون في 25 مايو 2022، وأجرى محادثات ثنائية مع نظيره الإيطالي ووقّع اتفاقية طاقة مهمة مع إيطاليا تمهد الطريق أمام الجزائر لتصبح أكبر مورد للغاز لإيطاليا. وهذا لم يخف الإسبان ولم يتأثروا بالضغط الجزائري غير الفعال.
كان الجزائريون يراهنون على أمثال خورخي ديزكالار، السفير الإسباني الذي تساءل قبل الانتخابات العامة ببلده التي أنتجت خارطة سياسية مفتاحها الآن بيد اليساريين، ماذا قد يحدث إذا حكمت نائبة رئيس الحكومة يولاندا دياز أو نونيز فيجو رئيس حزب الشعب ذات يوم؟ هل سيحافظون على هذا التغيير أم سيعودون إلى الوضع الذي كنا عليه طوال الـ47 سنة الماضية؟ وجوابه كان “أفضل عدم التكهن”.
ما يعني أن هناك قوى داخل إسبانيا ناهضت الاتفاق المغربي – الإسباني لأنها كانت تريد إبقاء الوضع كما هو دون تغيير. كانت تريد الذهاب بعيدا في معاداة المملكة، وتحبذ العودة إلى الصحراء من بوابة قوة دولية، بعدما أخرجت منها بقوة الإرادة الشعبية والرسمية في العام 1975 في مسيرة خضراء يحتفل بها المغاربة كل سنة.
بعد 48 سنة من المسيرة الخضراء يفتح الملك محمد السادس الطريق نحو المحيط الأطلسي على دول الساحل والصحراء في مبادرة سيكون لها الأثر الإيجابي على المنطقة، ونعتبرها رسالة ذات دلالات وأفق بعيد المدى يقلب كافة المعادلات التي أسس عليها الخصوم منطقهم الانفصالي والاستعماري ضد المغرب، إذ لن تكون هناك حواجز جغرافية على الطريق من مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى الأطلسي لتحقيق التنمية في جزء يعتبر غير مستقر حيث تتزايد المشاكل مع مرور كل يوم. وهي رسالة إلى الجزائر التي كانت تطمح إلى ممرّ نحو الأطلسي عبر دعم بوليساريو، ونقطة نظام تجاه إسبانيا توضح الطبيعة الإستراتيجية للحليف المغربي الذي تجمعهم معه مصالح سياسية واقتصادية وأمنية هائلة.