مكافحة العنف في المدارس محور أساسي في عملية إصلاح النظام التعليمي بالمغرب
يواجه المجتمع المغربي تفشي ظاهرة العنف في المدارس بشكل غير مسبوق، جعلت الجهات الرسمية المعنية تضع خططا عاجلة لمكافحة تلك الظواهر الخطيرة التي تؤثر بشكل سلبي على أجيال بأكملها.
تشهد المدارس المغربية تفشى العنف بشكل مفرط، الأمر الذي انعكس سلباً على العملية التعليمية، وبات تحديا حقيقيا لمنظومة التربية ولفرص إدماج الفرد في محيطه وتنمية المجتمع.
وقال رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الحبيب المالكي إن العنف في الوسط المدرسي يمثل ظاهرة مقلقة تحول دون بلوغ الأهداف المرسومة لتحقيق المدرسة الجديدة ذات الأثر الإيجابي على توازن المجتمع. وكشفت دراسة أنجزها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” عن معطيات صادمة بخصوص تفشي العنف في الوسط المدرسي بالمغرب بجميع أشكاله؛ من عنف لفظي، مثل السخرية والتنابز بالألقاب والشتائم، فضلا عن العنف الجسدي.
وأبرزت الدراسة تفشي إيذاء الطلاب لبعضهم عن طريق السخرية والتنمر وأشكال مختلفة من العنف اللفظي والجسدي. بالإضافة إلى التحرش والاعتداءات الجنسية في المدارس الابتدائية والثانوية في المغرب، ما جعل خبراء التربية يدقون “ناقوس الخطر”.
ودعوا إلى إيجاد حلول فعالة لمكافحة تلك الظواهر الخطيرة التي تؤثر بشكل سلبي على أجيال بأكملها.
وحذّر المالكي من الخطر الذي يشكله العنف المدرسي على مناخ التعلم وعلى الأطفال، مبرزا أن “بناء مستقبل المدرسة الجديدة رهين ببناء مستقبل الطفل، وهو ما يعتبر من المقومات الأساسية لمشروعنا المجتمعي”.
وأوضح أن هناك مجموعة من الإجراءات الضرورية وقد تكون حاسمة في هذا المجال، وتتمثل في دمج موضوع مكافحة العنف في المدارس كمحور أساسي في عملية إصلاح النظام التعليمي، والدعوة إلى وضع أنظمة المراقبة والضبط وتعزيز الإجراءات التأديبية والتأكد من تطبيقها بما يعزز مناخ الأمن والطمأنينة للمتعلمين.
آفة اجتماعية
صرّح ما يناهز من ثلاثة أرباع طلاب المرحلة الابتدائية الذين شملتهم الدراسة بأنهم يسمعون “ألقابا مهينة”، في حين أكد 55.9 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية، خصوصا الذكور، تعرضهم للسخرية والشتائم بدرجات مختلفة.
ووجد البحث الميداني الذي أشرفت على إنجازه الهيئة الوطنية للتقييم بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أن 25.2 في المئة من تلاميذ المرحلة الابتدائية صرحوا بأنهم كانوا ضحايا الضرب، فيما قال 28.5 في المئة إنهم تعرضوا للدفع بشكل عنيف.
وبلغت نسبة تلاميذ التعليم الثانوي الذين صرحوا بأنهم تعرضوا للضرب 25.3 في المئة، وقال 37.4 في المئة منهم إنهم تعرضوا للدفع بقصد الأذى. وكان الذكور أكثر عرضة لأعمال العنف الجسدي مقارنة بالإناث.
وأشار المالكي إلى أهمية إعادة تفعيل الأنظمة المؤسسة لمراقبة ورصد مختلف أشكال العنف في المدرسة والإبلاغ عنها، إلى جانب إنشاء آليات تنظيمية فعالة لإلزام الجميع باحترام قواعد السلوك واعتماد مدونة وميثاق سلوك داخل كل مؤسسة.
وأكد أن إصلاح نظام التعليم يتطلب التزاما ثابتا ومشاركة قوية من جميع الفاعلين ومختلف الأطراف في المجتمع، مشيرا إلى أن انخراط المجلس في هذا الجهد الجماعي، كقوة اقتراحية هو أساسي للنهوض بهذا القطاع، من خلال تفعيل وظائف الرصد والتقييم والتحليل، المتعلقة بمختلف الإشكاليات الخاصة بالنظام التعليمي.
واعتبر أن هذه الظاهرة “تبقى تحديا حقيقيا لمنظومة التربية ولفرص إدماج الفرد في محيطه وتنمية المجتمع، وهو ما يحتم على جميع الأطراف أن يولوها اهتماما خاصا لتوفير مناخ يضمن الطمأنينة للمتعلمين”.
دراسة حديثة كشفت معطيات صادمة بخصوص تفشي العنف في الوسط المدرسي بالمغرب بجميع أشكاله
وتفيد الدراسة ذاتها بأن التلاميذ يتعرضون لعنف الاستحواذ مثل السرقات البسيطة وتحت التهديد مع الاستيلاء على أغراضهم الشخصية، مشيرة إلى أن هذه الأنواع من العنف منتشرة.
وتبلغ نسبة تعرض طلاب التعليم الابتدائي إلى عنف الاستحواذ 27.1 في المئة، وترتفع النسبة في المرحلة الثانوية إلى 38.6 في المئة. وكانت نسبة السرقة تحت التهديد وإتلاف الأغراض الشخصية متساوية تقربيا بين الطلاب والطالبات.
ويعتبر طلاب المدارس الخصوصية في المدن أقل عرضة للسرقة تحت التهديد مقارنة بزملائهم في المدارس العمومية.
ووصل العنف بين الطلاب إلى الواقع الافتراضي، مع الانتشار المتزايد لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي، إذ صرح 8.3 في المئة من طلاب المرحلة الابتدائية بأنهم كانوا عُرضة لنشر محتويات غير مرغوبة عبر الإنترنت. وفي مرحلة الثانوي، كشف 8.6 في المئة أنهم وجدوا صورا ومقاطع تسيء لهم منشورة على الإنترنت أو تصلهم عبر تطبيقات التواصل.
وأبرزت ممثلة منظمة “اليونيسف” بالمغرب سبيسيوز هاكيزيمانا أن المدرسة باعتبارها فضاء للتعلم قد تتحول أحيانا إلى مكان يشهد ممارسات للعنف، معتبرة أن “الطريقة التي يتم التعاطي بها مع هذه الآفة الاجتماعية هي التي تحدث الفرق في الواقع، بالنظر إلى آثارها الآنية على الصحة العقلية والنفسية لأطراف العملية التعليمية، ممثلة في المتعلم والمدرس والكوادر الإدارية، ناهيك عن آثارها بعيدة المدى على مستقبل الأطفال ضحايا العنف”.
وتشير البيانات إلى “استفحال التحرش” في المدارس، حيث بين البحث الميداني أن التحرش واسع الانتشار في المؤسسات المدرسية”.
وأظهرت نتائج البحث أن 15.2 في المئة من طلاب المرحلة الابتدائية و29.7 في المئة من طلاب الثانوي أفادوا بأنهم تعرضوا للتحرش في مدارسهم، من ضمنهم 34 في المئة في المرحلة الابتدائية و25.4 في المئة بالمرحلة الثانوية أكدوا أن التحرش كان بطابع جنسي.
وأوضحت الدراسة أن طلاب المدرس الخاصة في الوسط الحضري هم الأكثر تبليغا عن التحرش، مقارنة بزملائهم في المدارس التابعة للحكومة أو المنتشرة في القرى والمناطق النائية.
وأكدت هاكيزيمانا ضرورة بذل المزيد من الجهود لتأمين الحماية في الوسط المدرسي، واتخاذ مجموعة من الإجراءات بما في ذلك التكفل بضحايا العنف ومعاقبة المسؤولين عنه، مشيرة إلى أن ذلك يتطلب إرادة قوية ومنظومة من الإجراءات الفعالة.
وتابعت أن “لدى المغرب من الإمكانيات والكفاءات المتخصصة ما يمكنه من رفع تحدي جودة المناخ المدرسي والتعليم الآمن”.
ويؤكد الباحثون ضرورة تضافر جهود جميع المتدخلين والفاعلين من أجل تعزيز السلوكات الإيجابية في الوسط المدرسي وفق مقاربة شمولية، مع توفير الموارد البشرية المؤهلة وتعزيز التكوين المستمر في هذا المجال.
ضحايا يفضلون الصمت
يسعى المتخصصون في المغرب إلى تحديد وتوثيق المبادرات والممارسات الجيدة التعليمية التي تعزز اللاعنف، والتعرف على عوامل النجاح الرئيسية والعوائق التي تحول دون الاستجابة الفعالة لمنع مكافحة العنف في الوسط المدرسي بالمغرب، فضلا عن دراسة المجالات الرئيسية التي يتعين أن تشملها تغييرات في ضوء التجارب الوطنية والدولية.
وقال جون بيير لوبون، مدير مركز الموارد والدراسات المنهجية لمكافحة التنمر المدرسي (ReSIS)، إن الأمر يتعلق بآلية تهدف إلى خلق فرق داخل المؤسسات التعليمية من أجل مكافحة العنف المدرسي عن قرب، ومرافقة ضحاياه ومواكبتهم ومواكبة أسرهم في مواجهة المعاناة التي تنتج عنه، لاسيما العزلة والإهمال.
وأكد لوبون أن “هدفنا هو التغلب على التفاصيل الصغيرة التي تمر في الغالب دون أن يلاحظها كوادر المدارس، كالسخرية والتنابز بالألقاب وعزل بعض التلاميذ، وهي تفاصيل تجعل الحياة صعبة لدى التلاميذ الذين يتعرضون لها”.
ويرى متابعون للظاهرة أن العنف بدا واضحا على مدى آخر عقدين ولكنه أصبح ظاهرة للعيان بشكل أكبر مؤخرا، خصوصا التحرش الجنسي في المدارس، سواء من قبل التلاميذ العنيفين أو حتى بعض المعلمين، والتي يكون ضحيتها على الأغلب أطفال صغار.
التنمر وغيره من أشكال الإساءة الجسدية واللفظية يؤدي بشكل أو بآخر إلى انتشار الجرائم، إذ إن معظم الجرائم التي يقترفها مراهقون أو شبان صغار تبدأ شرارتها من العنف والتنمر
لكن هذه الظاهرة أضحت قابلة للتعامل معها أكثر من أي وقت مضى، فسابقا كان الضحايا وذووهم يفضلون الصمت على ما يحدث مع أطفالهم من اعتداءات خوفا من الفضيحة والعار، ولكن في الأعوام الأخيرة باتوا أكثر جرأة في الحديث عن تلك المشاكل وخطورتها وبادروا بالتقدم بشكاوى إلى الجهات المختصة.
وبلورت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، خارطة الطريق 2022 – 2026 خصوصا في الالتزامين 6 و11 المرتبطين بالتأكيد على إرساء مدرسة آمنة ووسط آمن للتلاميذ. واعتمدت منذ عام 2022 مشروعين تجريبيين للمساهمة في مكافحة التحرش الإلكتروني والتنمر في الوسط المدرسي، وذلك داخل عدة مؤسسات إعدادية في أكاديميتي الرباط وطنجة.
وقالت مديرة برنامج تعميم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم بالمغرب “جيني”، إلهام العزيز، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن الوزارة تعمل في هذا الإطار مع عدة شركاء على تكوين أساتذة وكوادر الدعم التربوي والموجهين بوسائل تجعلهم يرصدون داخل الوسط المدرسي أي مشاكل محتملة يعاني منها التلاميذ كالتحرش أو المضايقات من طرف أقرانهم لخلق جو آمن لهم.
وأشارت إلى أنه سيتم العمل على تعميم هذا التكوين على عدد من مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي لصالح الأساتذة وكوادر الدعم التربوي وكوادر التوجيه، بالنظر إلى تفشي هذه الظاهرة في الأوساط العمرية التي تتراوح بين 10 و14 سنة.
ويقول المتخصصون إن التركيز يجب أن ينصب على الجانب الأخلاقي والانضباطي، والذي بفضله نجحت الصين، على سبيل المثال، في إنهاء مشكلة التنمر والعنف في مدارسها إلى حد كبير، وفي جارتها اليابان أو كوريا الجنوبية نجد هناك اهتماما كبيرا بالعوامل الأخلاقية والتربوية حيث لا يسمح بالتساهل مع طالب عنيف حتى لو كان مستواه العملي عاليا.
وأشاروا إلى أن التنمر وغيره من أشكال الإساءة الجسدية واللفظية يؤدي بشكل أو بآخر إلى انتشار الجرائم، إذ إن معظم الجرائم التي يقترفها مراهقون أو شبان صغار تبدأ شرارتها من العنف والتنمر.
وأكد مدير مركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط خالد أحاجي أن المركز قام باعتباره مركزا للبحث العلمي أيضا على عدة بحوث تهم العنف اللفظي والجوانب النفسية التي تهم التلاميذ من المراهقين بالأساس، على اعتبار أن هذه المواضيع تدخل في تجويد الحياة المدرسية.
وأثارت ظاهرة العنف ضد المدرسين نوعا جديدا من الجدل داخل المؤسسة التربوية المغربية، بعدما تعرض عدد من المعلمين إلى عنف جسدي، وتكاثرت الشكاوى ضد بعض التلاميذ.
وقال الطبيب والأخصائي النفسي أبوبكر حركات إن ظاهرة العنف أصبحت تتفشى بشكل غير مسبوق في المدارس المغربية، ما يدل “على “تغير القيم الثقافية في المغرب”. وأضاف أن المدرسة المغربية فقدت جزءا من دورها التربوي والثقافي، معللا ذلك بالقول “إن القيم المادية طغت على حياتنا، الأمر الذي أدى إلى تراجع الأدوار التي كانت تقوم بها المدرسة المغربية في تنشئة الأجيال الصالحة”. وبرأي حركات “أصبح المدرس لا يتوفر على أي قيمة داخل الحجرات الدراسية”.
وقامت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي بوضع تشريعات قانونية لمحاربة الظاهرة وفق مخطط عاجل. وسنت الحكومة عدة ضوابط لمحاربة العنف تتمثل في “الاهتمام بالتلميذ والإنصات إليه”، حيث يتم الاستماع لبعض التلاميذ الذين يعانون اضطرابا نفسيا من أجل البحث عن الحلول المناسبة لمشاكلهم.
وأشار محمد بنمعزوز الذي يتولى كذلك منصب المدير العام للأكاديمية المكلفة بالتربية والتكوين في جهة عبدة دكالة، إلى أن الحكومة عملت على إعطاء أهمية قصوى لتكريم التلميذ والعناية به وتحفيزه من خلال العديد من الأنشطة التي يقوم على تنظيمها المسؤولون عن الشأن التربوي.