مرّة أخرى، قرار آخر لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ينْضاف إلى رصيد قرارات المجلس المتّصلة بقضية الصحراء المغربية منذ 2018. قرارٌ آخر مكتوب من مِحْبَرة المُبادرة المغربية للحكم الذاتي.. ينتصر لها، مُعتبرا كونها مُقترحا جادًّا وذا مصداقية، ويُلحُّ على مضمونها بتكريس الإرادة الدولية للتوصُّل إلى “حلّ سياسي واقعي، عملي، دائم، ومتوافق عليه”. يقول بأن هذا هو المسار الذي يريده مجلس الأمن، مُعبّرا عن تصميم المجتمع الدولي على حل النزاع، الذي يقارب نصف قرن من التموْقع الشاذ عن مجرى التاريخ وتدافُعات الوضع الدولي.
القرار أيّده أربعةٌ من دول حق الفيتو، أميركا، بريطانيا، فرنسا والصين. ولم تعْترض عليه روسيا الحامل الخامس لحق الفيتو، وامتناعُها هو بطعْم الموافقة على القرار، وبمعنى عدم الرِّضى على الغريم الأميركي في سياق المُنازلة بينهما في ساحات دولية أخرى أبرزها الساحة الأوكرانية. ودلالة ذلك أن للمغرب موقعا مُميَّزا في العلاقات الدولية يجعله استثناء في تجاذبات واصطفافات الصراع الغربي – الروسي وتداعياته الدولية واشتراطاته.. لا طرف فيها يعامله من خلال مُقايَضة سياسية، وهو يفرض على كل الأطراف احترام استقلاليته ومراعاة حرصه على عدم الانقياد في مُشايَعة عمياء لمواقف أطراف الصراع الدولي. وطنيته موجِّه له في علاقاته الدولية وهي عاصمُه من الذوبان في اختيارات وصراعات لم يقرِّرها ولن يكون فيها سوى أداةً أو وقودا لها وفيها يحترق. إنها سياسة أصيلة في إدارة حكم المغرب وهي إرث من عراقة دولته، وقد طوّرها العاهل المغربي الملك محمد السادس، ومن منطَلَقها، ومن ثقته في قوة الحق المغربي وفي سداد وطنيته أمكنه اقتراح الحكم الذاتي لحل المنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية، وهو المقترح الذي يسعف اليوم المنتظم الدولي لاسْتكشاف حل سياسي واقعي وبراغماتي لمشاغبة جزائرية ضد المغرب، بلا أُفُق وبلا أساس.
تناسل من ذلك المنطلق الجوهري في القرار 2703، أن مدَّد مجلس الأمن لسنة أخرى كاملة مَهَمّة المينورسو في الصحراء المغربية، لمعاينة الالتزام بقرار وقف إطلاق النار لسنة 1991. وطالب المجلس مُجدّدا باحترامه، وهو يوجه تنبيهه لبوليساريو التي لم تملّ من الصياح بأنها مُتحلِّلة من الالتزام به. وها قد أقدمت، مؤخرا، على اختراق جدار الصبر المغربي حين تبنت التفجيرات في مدينة السمارة لتقتل مَدَنيا شابًّا وتجرح ثلاثة مدنيين عُزّل، في إعلان منها أنها عصابة إرهابية من حيث تسعى إلى لفت الاهتمام بها إعلاميا، وهي التي تجتاز منذ سنوات عُزلة سياسية بسُعارها الانفصالي الشاذ من القاموس السياسي الدولي، والذي ساهم المغرب في بلورته لإقرار الحل السياسي لتأزيم مُفتعل لوضع إقليمي في شمال أفريقيا، لا تطيقُه الصّراعات والتوتُّرات الدولية الكبرى التي تجتاح العالم.
◙ للمغرب موقعا مُميَّزا في العلاقات الدولية يجعله استثناء في تجاذبات واصطفافات الصراع الغربي – الروسي وتداعياته الدولية واشتراطاته.. لا طرف فيها يعامله من خلال مُقايَضة سياسية
ومن التوجه العام والأساس لقرار مجلس الأمن، صدر ذلك الإلحاح على مسؤولية الأطراف الأربعة للنزاع بالانخراط في العملية السياسية، من خلال المشاركة في مفاوضات التوصل إلى الحل السياسي العادل، الواقعي، والدائم والمتوافق عليه، عبر مائدة مستديرة بمشاركة كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وبوليساريو. وهو ما يعكس رفض مجلس الأمن لمحاولة الجزائر التملُّص من مسؤولياتها في مجرى النزاع وفي تغذية مسار حله. ولم يفعل مجلس الأمن سوى ملاحظة معطيات الوقائع على الأرض، وعبر التاريخ الطويل للنزاع، الجزائر هي الأساس فيها. إذ من أصلها أفرغت الجزائر بوليساريو من منشئها الوطني وشحنتْها بالغلّ الانفصالي، أواسط سبعينات القرن الماضي. ومن يومها والجزائر تدير بها عداءها للمغرب. وذلك العداء هو الحقد العُضال الذي يسكن القيادة الجزائرية تجاه المغرب، ويمنعها من النظر الواقعي لتدبير علاقاتها الخارجية، بدأ من المغرب إلى باقي دوائر تلك العلاقات. ومصلحتها تبدأ من نهج جديد في علاقاتها مع المغرب، تجاوبا مع نداءاته السلمية والأخوية للحوار وللتعاون والتي وجهها الملك محمد السادس، وفي خطب رسمية إلى قادة الجزائر.
العاقل المدبِّر للسياسة في الجزائر لا بد وأن يلاحظ بأن قرارات مجلس الأمن، وهذا القرار الأخير من جنسها ومن لغتها ومن مضمونها، تعكس عُزلةً جزائرية مُوحشة في العلاقات الدولية… لا أحد من كبار هذا العالم صوّت لصالح الأطروحة الجزائرية. لا أحد مَحَّضَ الجزائر أدنى اعتبار. ولا أقام لمصلحته معها أيّ وزن.. حتى روسيا سمحت لقرار مجلس الأمن بالمرور، لم تُوقفه ولم تُراع “زعل” الحليف الجزائري. لروسيا اعتبار خاص للمغرب وتقدير خاص لممكناته في علاقاته معها السياسية، الاقتصادية والتجارية. الجزائر لدى روسيا مُجرد زبون سلاح. فرنسا الّتي يتوق عبدالمجيد تبون لزيارتها ولقاء رئيسها، خاطبت الجزائر، عبر مندوبها في مجلس الأمن، الذي حرص على تفسير تصويته لصالح القرار، موضِّحا تأييد فرنسا، تاريخيا، لمقترح الحكم الذاتي المغربي. ليقطع أمل قيادة الجزائر في إمكانية تصعيد التوتر الفرنسي المغربي إلى مستوى يُبعد فرنسا عن المغرب ويقرّبها من الجزائر. الولايات المتحدة، هي الأخرى، أبلغت قيادة الجزائر عبر كلمة مندوبتها في مجلس الأمن، بأنّها تدعم الجهود المبذولة “لتحقيق تسوية سياسية” لتلبية طموح “سكان المنطقة” وشدّدت على أن مقترح الحكم الذاتي المغربي “مقاربة جدّية لتلبية تلك الطموحات”. وما قالته المندوبة الأميركية هو عيِّنة دالّة ممّا سيسمعُه السفير الجزائري الجديد في واشنطن، الوزير السابق صبري بوقادوم، من مراكز القرار في الإدارة الأميركية.
بالمُختصر الدال، قرار مجلس الأمن يغلق كل ممرات الجزائر نحو علاقاتها الدولية وهي تتأبط بوليساريو وتنفُث عداءها للمغرب… ذلك ما يُعلنه قرار مجلس الأمن وبالصوت الرنّان.. في القراءة السياسية لمضمونه، ولما وراء ما أنتجه من مواقف، بينما كان المسعى المغربي السّلمي لحل النزاع في الاتجاه السليم والنّاجِز والمتجاوب مع الإرادة الدولية السياسية أولا والقانونية ثانيا. وهو نتاج لموقع المغرب، سياسيا، اقتصاديا وإستراتيجيا، المميز في العلاقات الدولية مع كل أطرافها، ولهذا وجد نفسه في مجلس الأمن مُنَاصَرًا وبفخامة.
بقي أن يوجد في الجزائر من يستوعب ما يجري ويصحو في الوعي بأن أزمة الجزائر هي أزمة وعيِها بأزمتها. ولعلَّه يوجد ويفعل من أجل جزائر نافعة لنفسها ومُفيدة لغيرها.. وبالأقل، حتى لا تُهان في أكتوبر المقبل، وهي تصوّت لوحدها ضد قرار لمجلس هي عضوٌ فيه، في مُواجهة تأييدٍ عارم للمغرب من أغلبية وأهم أعضائه.