في ظل استمرار توتر العلاقة بين فرنسا والمغرب قَدِم جان لوك ميلينشون، زعيم “فرنسا الأبية”، إلى المغرب في زيارة تضامنية مع ضحايا زلزال الحوز، متوجها في البداية إلى أمزميز، زيارة إنسانية تحمل بين طياتها لمسة سياسية.
لكنه دافع عن الموقع المغربي وعن السيادة المغربية وعن الثقافة المغربية التي من الضروري أن يفكر فيها سياسيو باريس بالمزيد من الاهتمام.
لا يخفي ميلينشون إعجابه بالتجربة المغربية كاشفا عن نيته السفر إلى المغرب كأول زيارة له إلى بلدٍ أجنبي في حال تم انتخابه رئيسًا لفرنسا، وها هو يحقق الزيارة من موقعه زعيما لحزب خلق الفارق ببلده، في أوج العلاقات المتوترة بين باريس والرباط.
وليس غريبا عن ميلينشون هواء المغرب فقد ولد في مدينة طنجة من والدين من أصل إسباني، والده كان موظف بريد، وأمه مدرّسة، لينتقل معها إلى فرنسا حيث واصلت مهنة التعليم وتلقى تعليمه في مدارس وجامعات مختلفة، فحصل على إجازتين في العلوم الإنسانية والآداب الحديثة ومارس التعليم.
ويقول إن شخصيته المشاغبة نتيجة أصوله المتوسطية.
حوار مع النخبة
من جبال الأطلس الكبير عمق الثروة اللامادية للمغرب انتقل ميلينشون، زعيم المعارضة الفرنسية، خلال جولته في المملكة إلى مقر الثروة المادية بالمغرب الدار البيضاء ليلتقي النخبة المثقفة والأكاديمية وثلة من زعماء الأحزاب السياسية، منهم عزيز أخنوش بصفته الحزبية وليس الحكومية، من داخل جامعة الحسن الثاني، وهي زيارة بمثابة هجرة بين ثقافتين وعالمين متكاملين.
وحتى يثبت أن ما يؤرق الغرب في الهجرة يمكن أن يكون شيئا آخر، مسجلا أنها “فرصة رائعة للإنسانية، لأنه كلما هاجر الإنسان نقل المعرفة”.
كما ذكر أن “التعاطف أداتنا الإنسانية الأساسية”؛ فـ”نحن متشابهون، ولو أننا لسنا نفس الإنسان، إلا أننا نفس الكائنات”، و”المساواة ممكنة”، حتى لو رفض البعض إمكان تحققها ووسم هذه المبادئ بالمثالية.
وبالحديث عن الثروة المادية واللامادية والدور البشري في نموها بسط ميلينشون رأيه أمام الحاضرين، بالقول إن النمو السكاني الأفريقي مسألة إيجابية، خاصة بالنسبة إلى دولة مثل المغرب الذي هو من الدول الأكثر تقدما في القارة، معبرا عن إعجابه بتقاليد الشعب المغربي الذي أثبت مرة أخرى قدرته على التضامن في كارثة الزلزال.
وعلى نفس المستوى عبر ميلينشون عن رفضه الاستغلال الرأسمالي، وما ينتجه من أنانية مفرطة، لا تهتم بالآخر، لأن الفضيلة الأولى للشعوب تظهر في مواجهة الكوارث، و”ما رأيته بعد زلزال الحوز أن الأخلاق والثقافة ليستا مجرد كلمتين بل ضرورة ومادة أولية للإنسان الحر”.
وهذا يدخل في مفهومه للثورة والمواطنة، معبرا عن أمله في أن يكون الجيل الحالي آخر جيل يشهد تضاعفا في عدد السكان؛ لأنه عندما كان عدد سكان العالم مليارا كانت الرأسمالية غير أخلاقية، أما أكثر من ثمانية مليارات فهو “انتحار”.
وقال إن آلاف السنين توالت “للوصول إلى المليار الأول، ثم خلال مئة سنة جاء المليار الثاني، ثم تضاعف في حياتي، وتضاعف مرة أخرى”.
رفض ميلينشون تفسير صامويل هانتنغتون بشأن مسألة صدام الحضارات، واعتبر اللغة هي التي تعبر عن المشترك قبل الدين، هذا التمهيد لأجل تأكيد دفاعه عن استمرار استعمال لغته بأفريقيا والمنطقة المغاربية كوسيلة لنشر الأفكار وترتيب السياسات والحضور المكثف. وهنا سبق السياسي عنده أي شيء آخر، حيث وجه كلامه إلى الحاضرين قائلا “أنتم تتحدثون العربية والأمازيغية واللغة المشتركة (الفرنسية)، وهذا يخلق مجالا مشتركا للتبادل”.
زيارة ميلينشون إلى المغرب كمواطن فرنسي هدفها إيصال رسالة إلى المغرب بشكل خاص مفادها أن فرنسا أكبر من مجرد ماكرون، ولا ينبغي أن تتسم علاقتنا بالهيمنة، هذه هي رؤيته لطبيعة العلاقات التي يجب أن تكون مع المملكة، حيث سبق أن حذر رؤساء الحكومات المتتالية من مغبة الإمعان في استعداء الرباط لأنه يأتي بنتائج عكسية.
ويعترف بأن عدد الفرنسيين صغير نسبيا والتركيبة السكانية آخذة في الانخفاض، ويدرك أهمية الفرص التي تقدمها أفريقيا لفرنسا في مجالات عديدة، وليس العكس، وعليه لا بد من السعي لتحقيق المصالح المشتركة مع الدول الناطقة بالفرنسية.
وبالتالي فهو من السياسيين الذين يرفضون الاستخفاف بالأفارقة ومنهم المغرب بالطبع. وهو ما يقوم به إيمانويل ماكرون والمحيطون به.
سياسي متمرد
كانت التنظيمات اليسارية ملاذ ميلينشون السياسي. تمرس بالعمل السياسي إلى جانب الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران داخل الحزب الاشتراكي، واحتكّ بالعمل الحكومي في عام 2002 عندما عين وزيراً مفوضاً للتعليم المهني.
خلفيته الصحفية جعلته يعرف خطورة الصورة في الترويج التواصلي فهو يعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل، كما يستخدم تكنولوجيا الصور المجسمة ثلاثية الأبعاد لمخاطبة جمهوره في المؤتمرات الانتخابية. وقاده تشككه في وسائل الإعلام التقليدية في فرنسا إلى الاعتماد بشكل مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى الناخبين.
شخصيته المتمردة واعتزازه بمواقفه دفعاه إلى الاختلاف مع سياسات الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند، وقرر تأسيس “حزب اليسار” وبعدها حزب “فرنسا المتمردة” الذي مازال يقوده.
شغفه بالجدال من خارج وداخل المؤسسات جعله يترشح عام 2017 للانتخابات التشريعية، والفوز بأحد مقاعد مدينة مرسيليا، ليقرر بعد ذلك عدم الترشح مجدداً للنيابة، وأوكل لأحد المقربين منه خوض المعركة في دائرته.
وقبل عام فشل في دعوة اليسار بكافة مكوناته إلى تشكيل جبهة موحدة تمكنه من الحصول على الأكثرية داخل البرلمان وتجبر ماكرون على تسميته رئيساً للوزراء، ويعتقد ماكرون ومعسكره أن ميلينشون هو الخطر الحقيقي، من مواقعه المختلفة سواء كان زعيم حزب أو نائبا أوروبيا وعضوا في مجلس الشيوخ.
السياسي المخضرم الذي يبلغ من العمر 71 عاما والمرشح السابق للرئاسة، والذي حصل على أصوات ما يزيد على 7 ملايين ناخب، هو خطيب مفوّه تعززه شخصية قوية وحجة بالغة خلقت منه ومن حزبه حالة سياسية فرنسية فريدة، يخلق الجدل أينما حل وارتحل.
ويوصف بالسياسي المتمرد المبشر بولادة الجمهورية السادسة، الذي لا ترضى عنه المؤسسة السياسية في فرنسا، وحتى الإعلام التقليدي. تمرد زعيم اليسار الراديكالي الفرنسي وإصراره جعلاه يترشح للرئاسة للمرة الأولى في عام 2012، ثم في 2017، من دون أن يتأهل في أي منهما للدورة الثانية، وأعاد الكرة في عام 2022 أمام ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف ماري لوبان، وطموحه طي صفحة الجمهورية الخامسة على الرغم من اتفاقه مع مؤسسها شارل ديغول في معاداة الليبرالية.
الرجل الذي ترك الحزب الاشتراكي عام 2009 لقيادة حركة اشتراكية أكثر راديكالية كان هدفه تأميم المطارات والطرق السريعة وتأسيس مصرف عام عملاق وتقنين تعاطي القنب، وآفاق طموحاته تبدو أكثر من المتوقع بخفض قيمة اليورو لتعزيز التجارة والتنافسية، وإلغاء اتفاقات للتجارة الحرة وإنهاء استقلال البنك المركزي الأوروبي عن الساسة والخروج من صندوق النقد الدولي وسحب بلاده من حلف شمال الأطلسي، الشيء الذي وسع دائرة خصومه والمعترضين على نهجه.
الموقف من الصحراء
ربما تخلق له تصريحاته من جبال الأطلس ورحاب جامعة الدار البيضاء، بخصوص الصحراء المغربية وعلاقات بلده بالمغرب، مشاكل داخل فرنسا عبر التضييق عليه بالانتقادات من اليمين، لهذا فضل عدم حضور الصحافة المغربية بل وكان عدم حضورها شرطه لعقد اللقاء المشترك الذي جمعه بالأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية محمد نبيل بنعبدالله.
وقال السياسي الفرنسي لتفسير سبب اللقاء أن الصداقة مهمة جدا في العلاقة السياسية، وهذه الزيارة جاءت تلبية لدعوة هذا الحزب الأقرب توجها وأيديولوجيا إلى “فرنسا الأبية”.
قضية الصحراء، حسب فهم الزعيم اليساري ميلينشون، شائكة لدى الرأي العام المغربي، لكنه ينفي بشكل قاطع أي روابط مفترضة بين حزبه “فرنسا الأبية” وجبهة بوليساريو، ويعترف بأن الجميع في المغرب يشعرون بالاستثمار في المسيرة الخضراء، و”الأمر كذلك حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يحبون المغرب، حتى لو كانوا ملتزمين في بعض الأحيان ببعض التكتم”.
ميلينشون يقول بوجود معايير جديدة ينبغي للفرنسيين، بلا شك، أن يفكروا فيها بالمزيد من الاهتمام، وهو هنا يتحدث عن الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة وإسرائيل وإسبانيا والذي أدى إلى تغيير الطريقة التي ينظر بها العالم إلى قضية الصحراء. ويتمنى أن تتفهم بلاده ذلك، و”ألا نجعل الأمر بأي حال من الأحوال موضوعا للخلاف مع المغاربة”.
ويتفق ميلينشون مع زعيم حزب الجمهوريين، إريك سيوتي، حول حقيقة أن سيادة المغرب لا تقبل الجدل، ما يشكل ضغطا متزايدا على الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يتلكأ في الاعتراف بهذه الحقيقة، ما دفع زعيم “فرنسا الأبية” إلى دعوة الحكومة الفرنسية إلى “إظهار الواقعية”، معترفا بأن “المغرب طرح مقترحات مثيرة للاهتمام على الطاولة، يجب أخذها بعين الاعتبار”.
الاعتراف بأن الدبلوماسية المغربية فعالة للغاية لسنوات عديدة، سمح للجميع بالالتقاء والموافقة على قرارات الأمم المتحدة، هكذا يرى ميلينشون الأمور، فالمغرب لا يخلف وعده، وهو التصريح الذي من شأنه أن يثير غضب الجزائر وبوليساريو.