مدينة سيدي إفني المغربية: البهاء الطبيعي والمجد التاريخي
ما دام الصيف قد قرر أن يطيل مقامه بيننا حتى في عز فصل الخريف، لن نجد أبهى وأروع من الدخول إلى مدينة سيدي إفني عبر شواطئها الساحرة، ونختار «مير اللفت» الفاتن بكل المقاييس الذي يأسر قلوب عشاق السياحة الطبيعية منذ النظرة الأولى.
الدخول إلى مدينة سيدي إفني من باب السياحة، تستلزمه العدّة والاستعداد النفسي والبدني لتلقّي الكثير من أشعة الشمس الصحية والمناظر الطبيعية الخلابة والجواهر الربانية المجسدة في كل حبة رمل من رمال شواطئها البديعة وكل تضاريسها، كما تلزمه معرفة الدار وأهلها الكرام، وموقعها وكل تفاصيل وجودها المرتبط بشكل وثيق بكل المناطق المحيطة بها والمجاورة لها، لذلك نحمل حقيبة ظهر خفيفة ونبدأ الجولة في هذه المدينة الطيبة والقلعة الحصينة.
جغرافية البهاء
ليس هناك شك في أن مدينة سيدي إفني هي جوهرة بحق تتوسط تزنيت وكلميم باب الصحراء، وهي بذلك الجامعة المانعة لقبائل صحراوية وأخرى سوسية، لتشكل جسرا وسطا بين بداية العمق الحساني للصحراء المغربية، وأنوار سوس العالمة كما سماها المختار السوسي.
وهي تطل على الساحل الأطلسي، تحكي قصة اسمها التي لا تعقيد فيها، فهو مستمد من ضريح سيدي علي إفني، وتشكل عاصمة الإقليم الموجود في جهة كلميم واد نون، وتبعد عن باب الصحراء بحوالي 50 كلم، الإسبان عشقوها حتى أطلقوا عليها اسما ثانيا لم يصمد طويلا وهو «سانتا كروز دي لمار بيكينيا».
الحقيقة أن الباحث عن معلومات تتعلق بهذه المدينة المميزة، سيحتار كثيرا، فالمراجع متوفرة والكتابات كثيرة، ومنها من يخوض في الموقع الجغرافي، وأخرى تتحدث عن الاقتصاد، وبعضها يحكي قصة مقاومة الاستعمار، ناهيك عن تفاصيل فتنها الطبيعية التي لا تترك مجالا للزائر إلا أن يجدد الوعد لها بزيارات أخرى متعددة.
تاريخيا، أصبح الاستعمار الإسباني لسيدي إفني واقعا سنة 1934 وعمل جاهدا على تحويلها إلى مدينة شبيهة بمدنه ذات العمران الإيبيري، هو ما يتجلى في معالم نجدها في عدد من المباني، لكن كل ذلك سينتهي بعد انتفاضة قبائل أيت باعمران التي تنتمي لها الساكنة.
وحكاية هذه الانتفاضة التي اندلعت سنة 1957 درس بليغ في الانتماء إلى الوطن الأم المغرب، لأن الشرارة التي أشعلتها كانت إقدام سلطات الاستعمار الإسباني على تجنيس الساكنة وفرضت عليهم الالتحاق بالدولة الإسبانية.
الانتفاضة كانت هبّة شعبية قوية من قبائل أيت باعمران التي انطلق المقاومون بها وسيطروا على مراكز الجيش الإسباني التي تقع خارج المدينة، وبعد ذلك تمكنوا من فرض حصار عليها وتحولت إلى حرب يسميها الإسبان بـ «حرب إفني».
الحصار انتهى باسترجاع سيدي إفني عام 1969 خاصة في ظل صمود قبائل أيت باعمران ومواصلتهم للانتفاضة التي تناقلت أطوارها الصحف العالمية، والتي أنهت سنوات من الاستعمار، لتكون فاتحة خير على باقي مناطق الصحراء المغربية الواقعة تحت الاستعمار، حيث «سجلت الذاكرة التاريخية الوطنية لقبائل أيت باعمران حضورها القوي ومساهمتها الفعالة في الانطلاقة المظفرة لجيش التحرير بالأقاليم الجنوبية للمملكة سنة 1956 لاستكمال الاستقلال الوطني وتحرير الأقاليم الجنوبية التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الأجنبي» كما أكدته «المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير» في بيان لها العام الماضي 2022 بمناسبة تخليد الذكرى 53 لاسترجاع سيدي إفني.
وجاءت المسيرة الخضراء في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1975 لتجلي آخر جندي إسباني عن الصحراء المغربية يوم 28 شباط/ فبراير 1976.
هذا التاريخ المجيد لمدينة سيدي إفني يمنحها هيبة الزمان والمكان، ويبدو مثل وسام من فخر يزين صدرها وهي تفتحه أمام الزوار بكل كرم وأريحية، لكنها متواضعة جدا بسيطة لا تعقيدات فيها أو في سكانها، معالمها التاريخية التي تعود إلى فترة الاستعمار الموزعة عبر بنايات عددها لا يتجاوز الـ 11، تختزل أكثر من ذلك الرقم بكثير، تختزل صمود قبائل أيت باعمران التي يوحدها الدم والنسب والانتماء للوطن الأم المغرب.
ملامح من المدينة
تتجسد ملامح تاريخ سيدي إفني الملموس في بنايات معدودة يعود أغلبها إلى فترة الاستعمار الإسباني، ونجد القنصلية وأيضا مبنى السينما والبلدية والكنيسة والمنارة والتلفريك، وبعضها جرى توظيفه لاحتضان مقرات مؤسسات مغربية مثل مبنى البلدية الحالي، كما تم تحويل إحدى الكنائس إلى مبنى للمحكمة.
المتأمل لهذه المعالم التاريخية يلزمه التوقف مليا عند منارة سيدي إفني، والتي يصطلح على تسميتها محليا بـ «الفارو» وموقعها في وسط المدينة، أما شكلها فهو عبارة عن برج مربع مع معرض وفانوس يرتفع من طابقين، وفق ما ورد في إحدى الموسوعات العالمية.
العبور من هذا التاريخ الحديث، يمر عبر «تلفريك» ومطار سيدي إفني الذي يسميه أبناء المدينة «لابيسيون» ويستخدم حاليا كمهبط للمروحيات من أجل نقل المرضى والحالات المستعجلة من المدينة.
كل هذا النبض التاريخي والحاضر، تحتضنه مدينة مناخها صحراوي بارد مع طقس معتدل ودافئ في جل أوقات السنة، أما التساقطات المطرية فضعيفة، بالنسبة لأهل الدار، أهل سيدي إفني، فالمدينة حاضرة قبائل أيت باعمران التي تتكون من أيت النص، وأيت اعزا، وأهل صبويا، وإد شاعود، وأيت بوياسين، وتجاجت، وأيت كرمون، وأيت علي نتاكوت، وقبائل أخرى تشكل العقد الفريد للشجرة الأصل وهي أيت باعمران.
أما اللغة فهي العربية «الدارجة المغربية» ونسبة ثانية من الساكنة تتحدث باللغة الأمازيغية «تاشلحيت» وهي لغة أهل سوس، أما اقتصاد سيدي إفني فهو عبارة عن ثروة سمكية مهمة، تشتمل على الصيد والتجفيف والتعليب، ونجد ميناء لتصدير هذه الأسماك خاصة السردين، وما يوفره من فرص الشغل لليد العاملة محليا.
إلى جانب الصيد البحري، تنتصب شجرة الأركان الفريدة ومعها نبات الصبار وما يوفرانه من فرص شغل موسمية للنساء في الأرياف خاصة.
وإلى منبع آخر من منابع الاقتصاد، والحديث هنا عن السياحة وازدهارها في فصل الصيف إسوة بباقي المدن المغربية السياحية خاصة ذات الطبيعة البحرية والموجودة على السواحل، ولسيدي إفني قصتها الخاصة مع الفتنة الطبيعية، ففيها شواطئ غاية في الروعة نذكر منها ميراللفت ولكزيرة والشاطئ الأبيض.
زاوية أخرى لمشهد مُغرٍ
هذه المدينة المشيّدة على المنحدرات التي تطل على المحيط الأطلسي، تستقبل زائرها بالبياض الذي يلف جل أبنيتها، وتقدم له ما لذ وطاب من مأكل ومشرب وخاصة طاجين السردين، وتضيف إليه جرعة من الصفاء الإنساني الكريم، مساحتها الصغيرة لا تبدو كذلك عندما يشرع الزائر في التجول في أرجائها، الخطوات تقوده إلى وسط المدينة حيث المحكمة التي كانت في السابق كاتدرائية، ومقر البلدية الذي كان قصرا للحاكم، وفي ذلك المسار بين تاريخ حديث وحاضر جميل، يصطف النخيل على طول الطريق مع حديقة بديعة ومساكن عبارة عن فلل.
الهدوء الذي يعيد إلى الذهن تركيزه بعد ضجيج المدن الأخرى، يغري بالإقامة وللكتاب فيه مآرب أخرى مثل انهاء رواية أو ديوان شعر، فهي عبارة عن ممر من البهاء يمر عبر أبنية لا تنغص النظرة الطبيعية، لأنها محاطة بكل السحر الطبيعي الممكن، إلى الشواطئ التي قيل فيها مديح كثير واعتلت صورها أشهر البوسترات وأكثرها جاذبية عبر منصات السياحة العالمية.
تلك الشواطئ تلزم الكاتب عن المدينة أن يعطيها حقها وأكثر، لذلك فالوقوف عند عتبات فتنتها أساسي جدا مثل محطة لاسترجاع الأنفاس ومواصلة المسير في الحياة، وندلف إلى شاطئ الكزيرة، ورماله الناعمة التي افترشتها صخور نحتتها الطبيعة بشكل جميل جدا مثل لوحة ربانية لا دخل للبشر فيها.
شواطئ أخرى مثل الكريمة ووارزك، تجعلك تواصل مرور الفتنة نفسها، لكن شاطئ مير اللفت، وحده فتنة على فتنة، لا مكان فيه للتنفس دون الإحساس بآهات الجمال تتدافع بين شهيق وزفير، وهو بذلك يستحق أن يوصف بأنه أحد أجمل الشواطئ المغربية، ولن يكون الوصف منصفا لهذه الجوهرة لأن الكلمات أولا تعجز، وثانيا لا مجال للمقارنة مع زيارة ميدانية تختزن فيها الذاكرة الكثير من الجمال والروعة والصور الفاتنة.
سيدي إفني والانفتاح
بُعد آخر لمشاهدة سيدي إفني، ذاك الذي خصص له الباحث الحسين حديدي مقالا في مجلة «ليكسوس» حين أكد أن «منطقة أيت باعمران بإقليم سيدي إفني منذ القرن 17م وإلى غاية القرن 20م شهدت انفتاحا على المجالات المجاورة سواء منها الجنوبية لاسيما مع قبائل تكنة الصحراوية، أو مع القبائل السوسية شمالا خاصة قبائل الساحل ولاخصاص وأيت براييم».
ويوضح الباحث أوجه هذا الانفتاح، في كونه «شمل عدة مجالات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، أملته عدة ظروف طبيعية ومجالية وزمنية، وكان من نتائجه السجل التاريخي المليء بالأحداث المتنوعة التي ميزت هذه المنطقة في علاقاتها الجوارية، وطبعت تاريخها الحافل بالأمجاد الوطنية والملاحم البطولية، فاللافت للانتباه أن منطقة أيت باعمران منذ بداية التاريخ الحديث شهدت عمليات مصاهرة واسعة واندماج بشري مع الجيران من القبائل».
وكانت زاوية الرؤية العلمية والمعرفية مميزة عندما أشار إليها الباحث في مقاله، وهو يقول إنه «فضلا عن تطور العلم بالمنطقة من خلال انفتاح أبنائها أول الأمر على المدارس العلمية السوسية والوادنونية، وحصولهم على إجازات علمية مكنتهم من فتح مدارس علمية رائدة بالمجال الباعمراني خرجت أجيالا من الفقهاء والعلماء، ممن حافظوا على حسن الجوار والتضامن والتكافل في فترات الشدة والرخاء مع المجالات المجاورة».
ويستعرض الحسين حديدي ما دونته كتب التاريخ من صور «للتضامن والانفتاح القوي على الجوار حتى في أحلك الظروف عشية وصول القوى الاستعمارية الغازية للمنطقة ومحاولة عزلها عن محيطها الإقليمي والجغرافي، حيث تصدت هذه القبائل لهذه المخططات الاستعمارية ووقفت جنبا إلى جنب في وجه القوى الاستعمارية، والاشتباك بها في عدة معارك وتكبيدها عدة خسائر بأسلحة بسيطة وبعزيمة قوية، مستغلين جهل المستعمر بتضاريس المنطقة، حيث انخرط الباعمرانيون شيوخا وشبابا في صفوف المقاومة، برفضهم لسياسة التجنيس عام 1947م وتشبثهم بوطنيتهم، فتم اعتقال عددا من الزعماء ونفيهم جنوبا إلى مركز الداخلة وجزر الكناري، وبعد عودة الملك محمد بن يوسف من منفاه وحصول المغرب على استقلاله واصل البعمرانيون نضالهم، فانخرطوا في صفوف جيش التحرير بكلميم وخاضوا عدة معارك ضد الاستعمار الإسباني انتهت باستقلال سيدي إفني 30 حزيران/يونيو 1969».
التركيز على هذا الممر التاريخي، له ما يبرره لأنه فريد من نوعه وثانيا لأنه يعبر عن قوة الوفاء للمحيط الجغرافي الأقرب وبالتالي قوة الانتماء إلى المحيط الوطني المتمثل في المغرب.
تلك هي مدينة سيدي إفني التي اجتمعت لها كل أسباب المشاعر الوطنية والبهاء الطبيعي والنبل الإنساني والمجد التاريخي والصلابة والقوة في الدفاع عن الهوية والتمسك بها.