كيف استعدت مصر لسيناريو تفريغ غزة من سكانها
ضغط إسرائيل على الفلسطينيين للاتجاه جنوبا أحيا لدى المصريين مخاوف من أنها تمهد لتنفيذ خطة قديمة تقوم على إفراغ القطاع ودفع الفلسطينيين باتجاه سيناء، لكن مصر تجهزت لمثل هذا السيناريو مبكرا من خلال خطوات مختلفة.
قامت مصر بغلق منفذ رفح من جهتها السبت لمنع تهجير أهالي قطاع غزة إلى سيناء قسرا وتحقيق سيناريو إسرائيل، الذي يتم الحديث عنه علنا من خلال تصريحات مسؤولين حاليين وسابقين فيها، ويقضي بتفريغ غزة من سكانها بغرض القضاء على البنية العسكرية لحركة حماس. زادت القاهرة من جاهزيتها السنوات الماضية تحسبا لتنفيذ خيار تمت الإشارة إليه تلميحا في إطار جس النبض لعقد صفقة مع رؤساء سابقين، تبدو رابحة اقتصاديا وخاسرة إستراتيجيا.
أولى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي اهتماما أمنيا بالغا بمنطقة سيناء منذ توليه السلطة قبل نحو تسع سنوات، كان التفسير الظاهر لهذا الأمر القضاء على الإرهاب والمتطرفين، ولم يتخيل الكثيرون أن هذا التفسير يحوي بالتوازي، وربما قبله، التحسب من ترتيبات دوائر أخرى، تقضي بتوظيف الضعف الأمني في سيناء لصالح تهجير فلسطينيي غزة دون إرادتهم وسط عملية عسكرية تجهز لها إسرائيل.
أيقظ تدفق مئات الآلاف من سكان غزة على سيناء عقب اندلاع حرب أواخر 2008 وأوائل 2009 ثم عودتهم إلى القطاع قرون الاستشعار لدى الجيش المصري إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكانت هذه المحاولة أول اختبار عملي لخطة التهجير القسري، وتحدث عنه مبارك في إحدى مقابلاته الإعلامية بعد ذلك، مؤكدا أنه أبلغ بحسم بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك الذي رسم خارطته بعدم وجود رئيس مصري يمكنه القبول بها.
◙ البعض ينظر إلى مصر على أنها منعت التعاطف الإنساني مع قطاع غزة، لكنها فوتت الفرصة على تصفية القضية الفلسطينية
تجدد الحديث حول هذه الخارطة بعد سقوط نظام مبارك عام 2011، ففي عهد الرئيس محمد مرسي بدا أن هناك استعدادا لقبول الخطة الإسرائيلية – الأميركية مقابل حفنة مليارات من الدولارات تمنح للرئيس الإخواني، وأخذ هذا الخطاب جدية مع زيادة تدفق العناصر المتطرفة على سيناء لإرهاق الأجهزة الأمنية وتشتيتها وإضعاف سيطرتها على هذه المنطقة الحيوية.
تأكدت المؤسسة العسكرية في مصر، والتي لا يتزحزح إيمانها بأن الخطر الداهم يأتي دائما من الشرق، على الرغم من الالتزام باتفاقية السلام مع إسرائيل، وإن اختلفت أشكال المواجهة، فقد استبدلت المعارك العسكرية بالأفكار السياسية، إذ رأت إسرائيل أن تفريغ غزة من سكانها يريحها ويصدّر أزمة إلى مصر لعقود طويلة، وهو ما انتبهت إليه القاهرة وعملت على تفويت الفرصة على تحقيقه من خلال ملء الفراغ في سيناء.
استخدمت القيادة المصرية أدوات مختلفة لملء الفراغ، كانت البداية من إحكام سيطرة الجيش على المفاصل الأمنية في سيناء، عبر دحر التنظيمات الإرهابية والتخلص من النواة التي أراد تنظيم داعش تأسيسها تحت اسم “ولاية سيناء”، ما استغرق سنوات، لأن المتطرفين نجحوا في خلق بيئة اُستثمرت لجذب ولاءات اجتماعية لهم في سيناء.
تم الانتباه إلى مخاطر التهميش الذي عانت منه قطاعات كبيرة من أهالي سيناء في الجزء الشمالي منها وتعمدت حملات دعاية مغرضة الترويج لعدم التعامل معهم كأنهم “غير مصريين”، لذلك رُد الاعتبار لهم وجرى إجهاض هذه الفكرة من خلال التعاون والتنسيق مع شيوخ القبائل وشبابها من قبل الأجهزة الأمنية، ولعبوا دورا مهما في اجتثاث الإرهاب من وسط سيناء وشمالها.
عندما هدأت الأمور بالنسبة إلى الجماعات الإرهابية، كان هناك واقع عسكري تم التأسيس له بالتوازي مع الحرب ضد المتطرفين، يقضي بوضع المزيد من الركائز العسكرية المهمة في عمق سيناء، من غربها حتى شرقها، حيث قيدت اتفاقية السلام مع إسرائيل تواجد الجيش المصري وانتشاره ومعداته وآلياته وعناصره في بعض أماكن سيناء.
لم تقتصر المسألة على ذلك، حيث جاء الدور على تهيئة البيئة الأكثر خطورة في شمال سيناء، وتمثل نقطة تماس مباشر مع قطاع غزة وطولها حوالي 14 كيلومترا، وتم تفريغها من سكانها للقيام بإجراءات أمنية صارمة تنهي ظاهر الأنفاق الواصلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، ووضع سياج حديدي بعمق 30 مترا يمنع الاختراق تحت الأرض.
بدت عملية التهجير لسكان رفح والبعض من سكان العريش ونقلهم إلى أماكن أخرى قاسية عليهم، لأن الحكومة تعاملت معهم بلا توضيح لأهدافها الحقيقية، واستخدم خصوم القاهرة عملية التهجير في الدعاية السوداء ضدها، وقاموا بتشبيهات عدائية وصلت حد تشبيه ما حدث بما قامت به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهم لا يعلمون أن هذه الإجراءات ضمن أدوات حماية الأمن القومي.
يتخيّل مصريون أن سكان رفح وسيناء بقوا على ما هم عليه من تكدس وفوضى أمنية، وبعضهم له امتدادات اجتماعية في غزة، وقتها كانت النتيجة المتوقعة عدم السيطرة على الحدود بين الجانبين، وتدفق مئات الآلاف تلقائيا إلى سيناء، ولم تكن إسرائيل في حاجة إلى تحريض أو القيام بعمليات عسكرية واسعة النطاق لتحقيق هذا الهدف.
ينظر البعض إلى مصر على أنها حمت أمنها القومي وأجهضت خطة إسرائيل، ومنعت أيضا التعاطف الإنساني مع ما يعانيه سكان غزة، لكنها فوتت الفرصة على تصفية القضية الفلسطينية أيضا، وحرمت إسرائيل من تكرار سيناريو النكبة الأولى عندما قامت بتهجير الفلسطينيين عام 1948، ولا زالوا غير قادرين على العودة، وهو ما استعدت له مصر لحماية أمنها ودفاعا عن القضية الأم التي تراها جزءا أساسيا منه.
◙ إسرائيل رأت أن تفريغ غزة من سكانها يريحها ويصدّر أزمة إلى مصر وهو ما انتبهت إليه القاهرة وعملت على تفويت الفرصة على تحقيقه
تجاوز الاستعداد المصري الجانب الأمني وروافده المتباينة واصطحب معه جانبا اقتصاديا وآخر اجتماعيا، فالأول اعتمد على تطوير البنية التحتية في سيناء، ووضع لبنات أساسية لمشروعات تنموية غير بعيدة عمّا تم بالمنطقة الصناعية في شرق قناة السويس القريبة من سيناء، وتطوير ميناء العريش لخلق شبكة مصالح دولية.
تحوي المنطقة الصناعية استثمارات لدول عديدة مثل الصين وروسيا وألمانيا ومن مصلحتها الحفاظ على الهدوء والاستقرار في سيناء، ويخدم الميناء البحري نقل البضائع من أوروبا إلى أفريقيا وآسيا، حيث رافقه بناء خط سكك حديد يربط شمال سيناء بجنوبها، وإذا وجدت هذه الدول أن سيناريو توطين فلسطينيي غزة في سيناء يتم وفقا للخطة الإسرائيلية لن ترحب به باعتباره لا يخدم الأمن والاستقرار.
تكمن المشكلة أن تطبيق هذه الخطة جاء مبكرا نسبيا وقبل أن تنتهي مصر من ترتيب أوضاع سيناء بالصورة التي تريدها إستراتيجيا، لكن ما تحقق على الجانب الأمني يكفي لتحطيمها بامتلاك قدرة عالية على المواجهة، فإجراءات تقوية البنى الأمنية التحتية رافقتها جاهزية تتمثل في تطوير وحدات الجيش المصري بأحدث الأسلحة.
أما الجانب الاجتماعي، فقد قام على زيادة عدد سكان سيناء، فالعدد الحالي لا يتناسب مع مساحة الأرض الشاسعة، والتي أغرت نتنياهو وغيره من الإسرائيليين في جعل سيناء هدفا للتوطين الجديد، وقامت الحكومة المصرية بخطوات تمنح الحياة سهولة في سيناء وجذب الملايين من السكان في الوادي، واكتشف المصريون الأهمية التي انطوى عليها شق أنفاق في ممر قناة السويس لربط سيناء بالوادي وتسهيل حركة التنقل بينهما.
يسهم تغيير مكونات الجغرافيا الاجتماعية التقليدية في التقليل من أهمية خطاب الفراغ السكاني الدارج في الخطة الإسرائيلية، والمدعومة من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وهو ما تعمدت بعض وسائل الإعلام تسريبه على فترات متقطعة، وجعل القاهرة تنتبه له جيدا وتقوم بحزمة كبيرة من الإجراءات تحافظ على مصرية سيناء.