الملك محمد السادس يعرض مقاربة دقيقة ومتوازنة لتمكين افريقيا من المكانة اللائقة بها
دعا العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى إعادة النظر في المنظومة المالية العالمية والعمل على تحسينها لتصبح أكثر إنصافا واستيعابا لمصلحة الجميع، وقدم مقاربة دقيقة متوازنة لتمكين القارة الإفريقية من المكانة اللائقة بها ضمن بقية الهيئات الدولية.
ووجه الملك محمد السادس رسالة إلى المشاركين في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي تنعقد في مدينة مراكش خلال الفترة بين 9-15 أكتوبر الجاري. أكد فيها أن احتضان المغرب للاجتماعات “يشكل شهادة على التزام المملكة بدورها في تعزيز العلاقات الدولية”، معتبرا أنه ثمرة لشراكة انطلقت منذ أمد بعيد بمعية مؤسسات بريتون وودز، وهو كذلك “شهادة على الثقة في قوة إطارنا المؤسساتي وبنياتنا التحتية والتزامنا بدورنا في تعزيز العلاقات الدولية”.
وتعود العلاقات بين المغرب وصندوق النقد الدولي إلى العام 1958 على شكل مشاريع تعاون تهدف إلى تعزيز مرونة المملكة ونموها الاقتصادي، ومؤخرا وافق مجلس إدارة مؤسسة بريتون وود على تمويل قدره 1.3 مليار دولار لفائدة المغرب من صندوق المرونة والاستدامة.
ويهدف هذا التمويل إلى دعم انتقال المغرب نحو اقتصاد أكثر مراعاة للبيئة، وسيساهم في تعزيز استعداده وقدرته على الصمود في مواجهة الكوارث الطبيعية، لا سيما تلك المرتبطة بالتغير المناخي.
وأوضح الملك محمد السادس أن المقاربة التي يعتمدها المغرب ترجح كفة الانفتاح الاقتصادي والتعاون، مشيرا إلى أن المملكة انخرطت في مختلف الخطط والبرامج العالمية، سواء في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، أو بالتصدي للتغيرات المناخية، أو بمكافحة الإرهاب وتبييض الأموال وتنامي انعدام الأمن السيبراني الذي أفرزته الثورة الرقمية.
ويرأس المغرب مجموعة أصدقاء البلدان متوسطة الدخل، التي تشكل أكبر فئة ضمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إذ تضم 110 بلدان من بين أعضاء المنظمة الدولية، البالغ عددهم 193 عضوا.
وتعد رئاسة المغرب لهذه المجموعة اعترافا إضافيا بالدور المركزي الذي تضطلع به المملكة في النهوض بأولويات البلدان الناشئة والنامية داخل الأمم المتحدة والدفاع عنها، وفقا للرؤية الملكية من أجل تعددية أطراف فعالة، وفاعلة ومتضامنة.
وأطلق المغرب منذ مطلع القرن الحالي مجموعة من الإصلاحات المجتمعية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى، فضلا عن برنامج ضخم للبنيات التحتية، بالموازاة مع الحرص على المحافظة على التوازنات الماكرو اقتصادية التي يعتبرها الملك محمد السادس “ضمانة للسيادة والمرونة الاقتصاديتين”.
وأضافت الرسالة الملكية أن الأمر يتعلق بمقاربة متوازنة تسخر السياسة الاقتصادية لخدمة التنمية البشرية التي “جعلناها أولوية مطلقة منذ اعتلائنا العرش، وهو اختيار ما فتئنا نعززه منذ جائحة كوفيد-19″، مضيفا “أطلقنا في هذا المضمار ورشا غير مسبوقة تستهدف تعميم الحماية الاجتماعية في بلدنا”.
وقال العاهل المغربي“بدأنا نستشعر نتائج هذه الرؤية بشكل ملموس”، مؤكدا أن الاقتصاد الوطني أبان عن قدرة مهمة على الصمود في ظل هذا السياق الدولي المعقد وغير المستقر، والذي شهد خلال السنوات الأخيرة صدمات متتالية خارجة عن إطار المتوقع والمألوف.
من ناحية أخرى، تمكن المغرب من توطيد تموقعه باعتباره أرضا للسلام والأمن والاستقرار وبوصفه شريكا ذا مصداقية، وقطبا اقتصاديا وماليا على الصعيدين الإقليمي والقاري.
وتثير السياسة المغربية بأفريقيا اهتماما إعلاميا وسياسيا متزايدا، فقد تعزز رصيد المملكة المغربية من المصداقية في غرب ووسط أفريقيا، فهي أول مستثمر فيه ولها حضور قوي على المستوى الدبلوماسي والديني.
وشدد الملك محمد السادس على أن المنظور الذي تقوم عليه الرؤية الملكية للتنمية في المغرب، يستند إلى”مؤهلاتنا التي هي تاريخنا العريق، ووضع بلدنا باعتباره مهدا للسلام وتلاقح الحضارات وتعايش الديانات والثقافات؛ ثم الموقع الجغرافي لبلدنا كصلة وصل بين إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا”، مبرزا أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها السنوات الأخيرة تستدعي إصلاح المؤسسات والقواعد التي تحكم نظام تعددية الأطراف، موضحا أن “ما نشهده اليوم من تشرذم جيو-اقتصادي وتنام للنزعات السيادية، التي يعزى جزء منها إلى الرغبة في إعادة ضبط موازين القوى الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي، بات يشكل تهديدا للتقدم الكبير الذي تم إحرازه خلال العقود الأخيرة في ظل تعددية الأطراف”.
وأوضح أن إصلاح المؤسسات والقواعد التي تحكم نظام تعددية الأطراف، يقتضي كذلك توطيد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام وإذكاء الروح التي تلهمه، مشيرا إلى أن هذه المبادئ “ما تزال ضرورية لحفظ الاستقرار والسلم العالميين، والدفع قدما بتضافر الجهود للتغلب على التحديات المشتركة التي تواجه كوكبنا وشعوبنا”، عتبرا أن هذه الاجتماعات السنوية، أنسب فضاء لاحتضان حوار ونقاش بناء بشأن الإصلاح.
ويتطلب التصدي للتحديات العالمية حلولا عالمية لا تتيسر إلا في إطار الوحدة والاحترام المتبادل بين الأمم، لاسيما عبر إدماج التنوع وتثمينه، باعتباره قيمة مضافة لا مصدرا للنزاع والفرقة مع مراعاة خصوصيات كل دولة ومنطقة.
واختار المغرب التوجه نحو عمقه الأفريقي للمساهمة الفعالة في التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لكل الأفارقة. وتكلل هذا التوجه بتعزيز شراكاته الاقتصادية في العديد من المجالات.
وعبّر العاهل المغربي عن سعادته بانعقاد هذا المنتدى المرموق مرة أخرى في القارة الإفريقية بعد نصف قرن وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد عشرين سنة من دورة دبي 2003.
ويتيح الحدث البارز لصناع القرار الاقتصادي والمالي فرصة الاطلاع عن كثب على التقدم الذي أحرزه المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس، في مختلف المجالات.
ولفت أن “المغرب يتطلع من منطلق انتمائه الإفريقي، إلى تمكين القارة الإفريقية من المكانة اللائقة بها ضمن بقية الهيئات الدولية، بما يمكنها من النهوض بخططها الاقتصادية والاجتماعية، بعد أن صار صوتها ممثلا بالاتحاد الإفريقي، مسموعا في مجموعة العشرين”.
وتقوم الرؤية المغربية لأفريقيا على إرساء البعد التضامني بين البلدان الأفريقية، وتجاوز المغرب منطق الربح في علاقاته مع القارة السمراء حيث أصبح يعتمد على الاستثمار المنتج والنقل الجوي والبحري والخدمات المالية والمصرفية، بالإضافة لتصدير التجربة والمعرفة والخبرة والتقنية.
وقال الملك محمد السادس إن دول القارة من أكثر بلدان العالم تضررا من آثار التغيرات المناخية، رغم تصنيفها ضمن البلدان الأقل مساهمة في الأنشطة المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض.
ودعا في هذا الصدد إلى إعادة ضبط القواعد والأطر المنظمة لمعالجة إشكالية المديونية، بما يجعلها تراعي بشكل أفضل ما تعانيه الفئة الأكثر مديونية من الدول ذات الدخل المنخفض من إكراهات تحد من قدرتها على المبادرة ومواجهة التقلبات.
واعتبر أن إفريقيا التي يرتقب أن تأوي ربع سكان العالم في سنة 2050، يحق لها أن تستفيد اليوم من الشروط الكفيلة بتمكينها من تعزيز هوامش المناورة التي تمتلكها، واستثمار مؤهلاتها في الاستجابة لاحتياجات سكانها في عالم تخيم عليه أجواء الاضطراب واللايقين وتطبعه تحولات عميقة طالت النماذج والمنظومات القائمة.
وعمد المغرب إلى جعل التعاون جنوب-جنوب منطلقا أساسيا للانفتاح، معتمدا في ذلك نهجا يروم تحقيق التنمية المشتركة مع البلدان الشقيقة والصديقة في القارة الإفريقية.
وبالموازاة مع ذلك قال الملك محمد السادس إن العولمة التي بدأ مدها منذ ثمانينات القرن الماضي وساهمت في خفض تكاليف الإنتاج وتشجيع التجارة العالمية، كانت من بين العوامل المساهمة في تخفيف حدة التضخم الذي ينهك اليوم القدرة الشرائية للأسر في جميع أنحاء العالم، وذلك رغم السياسات النقدية المتشددة التي و”إن كان جلها قد طبق بشكل متزامن، لم تخل من تداعيات على النشاط الاقتصادي”.
وسجل أن العولمة مكنت من تحقيق بعض التقدم الملموس من خلال تحسين مستويات العيش، مما أسهم في تخليص فئات عريضة من سكان العالم من وطأة الفقر، بالرغم مما رافقها من آثار جانبية، خاصة ما تعلق منها باتساع هوة الفوارق والتفاوتات.