كانت النساء تصرخن وتنتحبن بلا توقف، بينما الرجال استسلموا لدموعهم الصامتة. سيارات الإسعاف تذهب وتعود إلى المستشفى لتنقل من كُتبت لهم حياة جديدة، أما الأموات فقد كانوا يُلفون وسط الأغطية ويُحملون إلى حيث مقبرة الدُّوار لدفنهم لاحقا.
حين وصلت فاطمة إلى قريتها تافكاغت، بجماعة أمزميز، لم تقوَ على الاقتراب والنظر نحو المنزل الذي عاشت فيه 30 سنة، إذ لما علمت بانهياره كاملا وبأن زوجها مات بداخله سقطت باكية بجانب النساء في تلك الساحة التي كانت توضع فيها الجثث جنب المصابين.
كانت قد حلّت بالدوار نفسه سيدة قررت وضع حملها في بيت والديها، فأتت معها أختها وابنتها، ليكون الفرح مشتركا، لكنه تحول إلى قرح، لأن الجميع فارق الحياة تحت الأنقاض.
وغير بعيد، كان في منزلٍ مناسبة خطوبة جمعت أسرتين للاحتفال بفتاتين تستعدان لحياة الزوجية، لكن وافت المنية جُل الحاضرين.
أما الحسين، الرجل الستيني الذي يقطن في دوار “تلات نيعقوب”، فقد استضاف، في تلك الليلة قبل حدوث الكارثة، أسرة من الجيران، فاستحضر ما جرى، قائلا: “كانت معنا سيدة شديدة الارتباط بدينها، لما انتهينا من تناول العشاء أصرت على الذهاب إلى منزلها لكي تتوضأ وتصلي، لم تسمع لإلحاحنا بقضاء الليلة معنا. لقد غادرتنا إلى دار البقاء، لأن منزلها انهار عليها هي وزجها”.
في كل قصة قصصٌ وأحزان أخرى، لأناس عاشوا زلزال الحوز بتفاصيله المرعبة، التقاهم طاقمنا في قرى “أمزميز” و”تلات نيعقوب” و”أسني” و”أنكال” و”إيمي نتالا” و”أدردور”، وفي المدينة القديمة لمراكش. بقدر ما يجرحهم الألم وتطاردهم ذكريات الرعب، بقدر ما يتشبثون بالأمل الذي بعثته تدخلات الدولة من تحت الدمار، حين تركّز كل جهدها على التدخل السريع المُفضي إلى الإنقاذ، والعلاج، فضلا عن التأهيل والإعمار، بما سيجعل المنطقة أفضل بعد الدمار.
ليلة الوداع
في قرية “تافكاغت”، البعيدة عن جماعة أمزميز بحوالي 10 كلم، والتي مات 73 من سكانها، كانت تجلس فاطمة، في نهاية عقدها الخامس، تحت شجرة زيتون أمام خيمتها البلاستيكية.
ألبَسها موت زوجها الثوب الأبيض، وأصحبت هي و5 نساء أرامل في القرية. بجانبها كانت ابنتها بقامة نحيفة وعينين حمراوين من شدة ما بكته لفقدان والدها. وكانت معهما زوجةُ وطفلتا شقيقها الأربعيني الذي كان لا يتوقف عن المشي ذهابا وإيابا، لأن هول الصدمة يلاحقه.
حين وقع الزلزال كانت في زيارة لابنتها في الدار البيضاء، أما ابنها الغائب بدوره، فقد وصل إلى الدوار ليلة الفاجعة. انتقل إليه من الدار البيضاء عبر “الأوطوسطوب” لكيلومترات، لكي يجد أن والده كان ضمن المتوفين.
تحمل فاطمة معها قصص نسوة أصبحن أرامل أو فقدن أولادهن وأحفادهن. كانت في كل مرة تتحدث معنا تشير بأصبعها نحو سيدة وهي تمر بالقرب، لتخبرنا بأنها أرملة فقدت زوجها وابنتها، وإلى أخرى فقدت ابنها، وإلى صديقتها فتيحة التي فقدت أربعة من بناتها.
صدمة فتيحة كان طاقمنا شاهدا عليها في الساعات الأولى لصباح السبت 9 شتنبر 2023، إذ كانت هذه السيدة برفقة نسوة الدوار اللاتي تمكّنَ من الهرب من منازلهن مُجتمِعاتٍ يراقبنَ، في جو مُبك ومؤلم، عملياتِ البحث بين الأنقاض ليعرفن مصير ذويهن، قبل أن يُخبرها أحد أبناء القرية أن بناتها الأربع توفين جميعا، فخرت أرضا.
كنا نتحدث مع فاطمة حين اتجهت صوبنا سيدة في عقدها السادس، حفر الزمان تجاعيد عميقة في وجهها، أتت لتخبر فاطمة بأنها وجدت، صُدفة، بعض ملابس ابنتها بين ركام المنزل هناك. استسلمت لدموعها وهي تقول “تْشوايي إيلي تشوايي إيلي نتات أيديلان غاري” (كواتْني بنتي كواتني بتني هي لي عندي).
كانت فاطمة، وممن تبقوا من أسرتها، يراقبون حركة الناس من ربوة عالية وسط القرية، تابعة للأراضي السلالية، اتخذوها مستقرا لهم بعد انهيار منزلهم في الجهة المقابلة، فأصبح لهم جيران آخرون وروتين يومي مغاير لما عاشوه طيلة سنين. إذ عند وصولنا إليهم كانوا قد انتهوا من وضع خيمة، استفادوا منها على غرار سكان القرية، وبدأوا في وضع خيمتين أخريين، لأنهم كثرٌ، ولن تكفيهم لا واحدة ولا اثنتان.
خطوة بين الحياة والموت
“ما جمعتُه من مال يوجد هناك تحت الدمار، وورشة الحِدادة التي كنت أعمل بها نزلت فوقها طوابق المنزل ولم يعد لي رأسمال بعد الآن، والحمد لله أنه لم يمت أحد من أسرتي”.
في قرية “تَلاَتْ نيعقوب”، التي كانت بؤرة الزلزال وتحضن 7856 نسمة و64 دوارا، التقينا بين أطلال السوق المنكوب رجلا في منتصف عقده الخامس، كان مجروحا في رأسه ورجليه، وآثار الدماء لطخت عباءته وسرواله. كان يتكئ على عكازه وهو يمشي في ما كان يوما سوقا يحج إليه المتسوقون كل يوم أربعاء، أما الآن فقد أصبح مدمرا بالكامل.
حكى لنا بأن خطوة واحدة هي التي جعلته يسلم، إذ عندما سمع صوتا مدويا وتحرك المنزل هرع إلى الخارج وأصيب في مؤخرة رأسه وفي جزء من رجله، فيما تكلف أحد أبنائه بمساعدة بقية أفراد أسرته الستة للخروج إلى حيث الأمان.
في تلك الليلة قبل حدوث الكارثة، استضاف الحسين أسرة من الجيران، تناولوا العشاء ورفض ضيوفه المكوث معهم، فغادروا إلى منزلهم القريب. استحضر الحسين ما جرى قائلا: “كانت معنا سيدة شديدة الارتباط بدينها، لما انتهينا من تناول العشاء أصرت على الذهاب إلى منزلها لكي تتوضأ، لم تسمع لإلحاحنا بقضاء الليلة معنا. لقد غادرتنا إلى دار البقاء لأن منزلها انهار فوقها”.
كان مُتسلحا بإيمان قوي رغم مُصابه، يردد ما يحفظه من آيات قرآنية، ويشدد على أن هذا قدر يجب الإيمان به، وبأن الفقير أصبح الآن كالغني، سواسية يجمعهم الألم.
بطولات وسط الأنقاض
فخور بما فعله ليلة الفاجعة، لكنه يستسلم لدموعه كل يوم حين يلج خيمة أسرته وتسأله ابنته، ذات 3 سنوات، “متى سنعود إلى منزلنا يا أبي؟”.
في ليلة الزلزال أخرجَ الشاب عمر أفراد أسرته من منزله الطيني. حكى لنا أن الظُّلمة والغبار صعّبا عليه البحث، هو وأصدقاؤه، عن الجيران، إذ لم يظهر لهم أي اتجاهٍ، فقط صرخات النجدة هي التي دلتهم على أماكن الأحياء العالقين.
ساهم عمر في إنقاذ خمسة أحياء من تحت الدمار، وأخرج أيضا رفقة أصدقائه جثث آخرين من أسرة واحدة (ثلاثة أطفال مع أمهم وأبيهم).
عمرُ شاب في عقده الثالث يقطن بجانب “تلات نيعقوب”، مياوم يُعول على نفسه لإعالة أسرته الصغيرة، إذ يشتغل مع تاجر معروف في المنطقة. لكن بعد الزلزال أصبح المُشغل ومستخدموه الـ20 سواسية.
بالصدفة كنا التقينا بالتاجر الشاب الذي يشتغل عنده عمر، كان متوجها إلى ما تبقى من محلاته التجارية وأنقاض منزله الذي انتهى من بنائه الشهر الماضي. حلّ حيث الدمار ليرى كيف يمكنه أن يُخرج سلعته التي سلمت من الزلزال. وذاك ما شرع فيه، إذ استقدم شاحنتين صغيرتين، وبدأ في شحن بعض المواد الأساسية والفلاحية.
غير أنه مهما استعاد من سلع، بين أنقاض منزله ذو الطابقين، لم يكن ليستطيع إنقاد تجهيزات إلكترونية مدمرة تساوي الملايين، كما أكد لنا.
استنفار وتعبئة
كان طاقمنا شاهدا على استنفارٍ وتعبئة بدأت منذ تلك الليلة المرعبة. حين وصل الطاقم إلى مراكش في الساعة الخامسة صباحا كانت أبواق سيارات الإسعاف والدرك الملكي والوقاية المدنية لا تتوقف، في وقت كان كل المراكشيين يقضون الليل تحت السماء في الساحات العمومية، على غرار جل المدن.
مواكبُ سيارات الإسعاف والدرك الملكي صعّبت علينا تحديد وجهتنا، وفي أي مكانٍ بالضبط وقع ما وقع؟ فإلى كل الاتجاهات كانت تسير هذه العربات المسرعة. في الأخير، وبعد توصية من دركيّ، قررنا التوجه صوب أمزميز البعيدة بساعة من الزمن عن مراكش، والقريبة من بؤرة الزلزال بحوالي 40 دقيقة من الجهة الأخرى.
وسط الظلمة والغبار اللذين عمّا المكان، وصلنا أمزميز في حوالي الساعة السادسة من صباح السبت. أول تدخل مررنا به هو محاولة إخراج ضحايا بين أنقاض منزل من طابقين، في اتجاه وسط الجماعة كان هناك تدخل آخر لإنقاذ أشخاص كانوا في مقهى مطمور تحت طابقين.
مع انجلاء الضوء، اتضح أن هناك محاولات تجرى في جنح الظلام لإنقاذ من كانوا عالقين بين الأنقاض، بينما كان الناجون مجتمعين بعيدا عن المباني، منهم من أسعفه الوقت ليحمل معه أغطية يحمي بها نفسه ومن بجانبه من برد الليل، إلى أن ظهرت أولى أشعة الشمس الضعيفة لتكشف للجميع عن تفاصيل مشاهد محزنة ومؤلمة.
تركنا جماعة أمزميز وانتقلنا عبر مسلك متعرج إلى دوار “تافكاغت” (على بعد 10 كلم)، لنرى حجم الضرر الذي سيكون في هذه الأماكن القروية. وقد كان لافتا كيف أن الاستنفار الذي حصل في تلك الليلة أوصلَ شاحنات القوات المسلحة الملكية إلى هذه القرية في الساعات الأولى من الصباح، كانت ممتلئة بالجنود الذين انتقلوا بسرعة، وانتشروا بين الأنقاض بحثا عن الناجين والضحايا.
في ذلك اليوم (السبت 9 شتنبر)، ترأس جلالة الملك جلسة عمل، أعطى فيها تعليماته بهدف مواصلة أعمال الإنقاذ بشكل عاجل على الصعيد الميداني، وفتح حساب خاص لتدبير آثار الزلزال. وفي اليوم الموالي صادقت الحكومة على إحداث حساب الصندوق الخاص بتدبير الآثار المترتبة عن الزلزال.
وبعد إخبار لجنتي المالية بالبرلمان، ونشر المرسوم بالجريدة الرسمية، ترأس جلالة الملك جلسة ثانية في 14 شتنبر، ليعطي تعليماته لتقديم الدعم ومساعدات مالية مباشرة للأسر المتضررة، وإطلاق برنامج استعجالي مدروس لإعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة.
وفي 20 شتنبر عقدت جلسة ثالثة تم فيها تقديم البرنامج بين يدي جلالة الملك، ميزانيته التقديرية 120 مليار درهم.
وسيتم إنشاء وكالة مخصصة لضمان تنزيل البرنامج الاستعجالي لتأهيل وإعمار المناطق المتضررة من زلزال الحوز، والذي خصصت له ميزانية تبلغ 120 مليار درهم، بتوجيهات ملكية.
هكذا تمت مواكبة هذه التعبئة
يوم الأربعاء 27 شتنبر 2023 صادق مجلس الحكومة على مشروع القانون رقم 50.23 في شأن منح الأطفال ضحايا زلزال الحوز صفة مكفولي الأمة، قدمه عبد اللطيف لوديي، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني، في أفق عرضه على أنظار المجلس الوزاري.
وفي اليوم نفسه أيضا، صادقت على مشروع المرسوم بقانون رقم 2.23.870 بإحداث وكالة تنمية الأطلس الكبير.
ولتنزيل ناجع لهذا البرنامج المهيكل، تنفيذا للتعليمات الملكية السامية الداعية إلى ضرورة اعتماد حكامة نموذجية مقوماتها السرعة والفعالية والدقة والنتائج المقنعة، حتى يصبح برنامج إعادة البناء والتأهيل العام للمناطق المتضررة نموذجا للتنمية الترابية المندمجة والمتوازنة، أشار بلاغ سابق للمجلس الحكومي إلى أن مشروع هذا المرسوم بقانون يهدف إلى إحداث مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، تحت اسم “وكالة تنمية الأطلس الكبير”، يعهد إليها بالإشراف على تنفيذ هذا البرنامج وتدبير مشاريعه.
ويتضمن المشروع مقتضيات تهم تحديد المهام والصلاحيات المنوطة بالوكالة، لتنجز مجموع مكونات ومشاريع البرنامج، خصوصا إنجاز مشاريع إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة، مع أخذ البعد البيئي بعين الاعتبار، وفي احترام تام للتراث المتفرد وتقاليد وأنماط عيش ساكنة المناطق المعنية، وكذا لضوابط ومعايير البناء المقاوم للزلازل، وإنجاز مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالمناطق المستهدفة المدرجة بالبرنامج المذكور.
كما ستعمل على تحقيق التقائية وانسجام المشاريع المدرجة بالبرنامج، بتنسيق مع مختلف الإدارات والفاعلين المعنيين؛ وتتبع إنجاز البرنامج وإعداد حصيلة الإنجازات، ولاسيما مستوى تقدم إعداد المشاريع والالتزام بالنفقات ومستوى تقدم الأشغال، ووضعيات الأداء.
وبحسب المشروع، سيتم إبرام عقد برنامج بين الدولة والوكالة يحدد على الخصوص مكونات البرنامج، وأهدافه، وكيفيات تمويله، وكذا الجدولة الزمنية لإنجازه، والمحددة في خمس سنوات، وتحديد أجهزة إدارة وتسيير الوكالة المتمثلة في مجلس التوجيه الاستراتيجي، الذي يرأسه رئيس الحكومة، والمدير العام للوكالة، وتحديد مهام واختصاصات كل منهما، وتحديد التنظيم الإداري والمالي للوكالة، وإلزام إدارات الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية بموافاة الوكالة، بطلب منها، بالمعطيات والمعلومات والوثائق الضرورية لتمكينها من الاضطلاع بالمهام الموكولة إليها، مع فتح إمكانية لجوء المدير العام للوكالة إلى الولاة والعمال المعنيين، من أجل إصدار التراخيص اللازمة لإنجاز مشاريع البرنامج في حالة تأخر أو رفض غير مبرر من طرف الإدارات والمؤسسات العمومية والهيئات المعنية لمنح هذه التراخيص.
وابتداء من شتنبر، سيتم صرف مساعدات استعجالية للأسر المعنية، إذ سيتم صرف 2500 درهم شهريا على مدة سنة واحدة، وصرف 140 ألف درهم لكل أسرة انهار منزلها، و80 ألف درهم لكل أسرة لتأهيل وإعادة مساكنها التي تضررت جزئيا. وفي هذا الإطار تم التوقيع على اتفاقية مع صندوق الإيداع والتدبير.
تعاون دولي يومي مع المغرب
تم إنشاء قاعدة في مدخل جماعة أمزميز، لتنسيق العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية ونظيرتها الإسبانية والإنجليزية والقطرية، وهي جانب آخر من مستوى التعاون الذي كان بين المغرب وشركائه الدوليين الذين أرادوا دعم المتضررين من الزلزال.
شكلت القاعدة أساس الإعداد والتنسيق والتعاون اليومي والمستمر، قبل إرسال فرق التدخل إلى الأماكن المتضررة.
لتعزيز التعاون القائم، كانت داخل هذه القاعدة، التي خصصت لها مساحة كبيرة في مدخل جماعة أمزميز، خلية مغربية مهمتها جمع كل المعلومات وتقاسمها بين الشركاء الدوليين المشاركين في عمليات إنقاذ المتضررين من الزلزال، عبر نظام إلكتروني.
وكما عاين طاقمنا فالخيمة التي توجد بها الخلية مفتوحة في وجه مسؤولي هذه الفرق، وكانت بمثابة نقطة اجتماع بين المسؤولين لتبادل كل المعلومات والتنسيق في كل تفاصيل عمليات التدخل.
عند وصولنا إلى القاعدة صباح الثلاثاء 12 شتنبر 2023، كان الجميع جاهزا للانطلاق نحو الدواوير التي سيتم التدخل فيها، إذ مع الساعات الأولى تم الاتفاق على كل شيء بين مسؤولي القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية ونظيرتها الإسبانية والإنجليزية ومجموعة “البحث والإنقاذ” القطرية.
في هذه القاعدة، تضع القوات المسلحة الملكية شاحنات ثقيلة وعربات خفيفة (JEEP) رهن إشارة فرق التدخل الإسبانية والإنجليزية، وأيضا المغربية. كما كان بها عشرات من عناصر القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية والقوات المساعدة، كل بمهمته.
وبعد التأكد من الجاهزية التامة، تدير هذه الشاحنات محركاتها لتنقل فرق التدخل، بمعداتها وكلابها المدربة، إلى حيث تريد الاشتغال، وهي تسير إلى وجهتها تشكل هذه الشاحنات عبر قافلة يقودها الدرك الملكي والقوات المساعدة.
قبل الانطلاق إلى حيث الضرر، تكون هناك عملية تنسيق من مستوى آخر قد انتهت، إذ أن فرقا للاستطلاع تابعة للقوات المسلحة الملكية عملت على ضمان الوصول الآمن إلى المنطقة المحددة، بتنسيق مع السلطات المحلية، إذ يمكن أن يكون المسلك مقطوعا أو يوجد عارض ما قد يعيق التنقل.
يتم التفصيل في المسار بتحديد النقط التي سيمكن المرور منها، وتلك التي لا حلّ معها سوى استعمال المروحيات، إذ توجد مسالك مقطوعة بسبب الأحجار الضخمة التي تهاوت بفعل الزلزال.
لذلك كانت السلطات المعنية تضع كل السيناريوهات أمامها، لضمان وصول فرق التدخل بسلاسة وسرعة، إذ لا يتم الأمر بدون الاستعانة بالمروحيات والطائرات المسيرة لاستطلاع الوضع.
في مدخل جماعة “تلات نيعقوب”، وبعد مرور أربعة أيام من الزلزال، انخرط في مساعدة المتضررين فريق ضم حوالي 137 عنصرا قدموا من الإمارات.
علي المطوع، رئيس فريق الإمارات للبحث والإنقاذ، كشف أن مساهمة هذا البلد الخليجي في جهود المغرب تمت عبر جسر جوي مفتوح منذ انضمام الإمارات إلى الدول التي أرادت مساعدة المملكة، وهو ما مكّن من إيصال كل ما يلزم للعمل بجانب السلطات المغربية.
ويوم السبت 16 شتنبر 2023، وصلت عبر هذا الجسر الجوي الذي يصل إلى مراكش، شحنة جديدة من المساعدات من ضمنها من حاويات تخصص للسكن في الحالات الطارئة.
هذا الجسر بين المغرب والإمارات سمح لفريق التدخل الإماراتي بتوفير كل ما يلزم، إذ كان لديه فريق طبي متخصص في الدعم النفسي، وخيام للعمليات والتدخل، و22 كلبا مدربا للبحث عن الجثث، وسيارات الإسعاف وشاحنات التدخل من الحجم الكبير، وعناصر مجهزة متخصصة في التنقل إلى حيث الدمار لكي تنتشل الضحايا المفترض وجودهم.
تدفق تطوعي وحس تضامني لا يوصف
بالموازاة مع كل هذه التدخلات، حمل الحس التضامني عددا لا يحصى من المواطنين إلى الحوز، ووضعهم بجانب المتضررين، لعلهم يضمدون جراحهم بما استطاعوا توفيره من مأكل ومشرب، وحتى المساعدة في عمليات التدخل وسط الأنقاض.
ما حصل أظهر منسوب التضامن لدى المغاربة، ومدى استعدادهم للتدخل في الفواجع. فمسالك المنطقة لم تتوقف فيها حركة التنقل، بشكل يجعلها في عدد من النقط متوقفة ريثما يتم التدخل لتحرير الطريق أمام مئات السيارات والشاحنات والدراجات المحملة بشحنات من المساعدات، خصوصا أن الأمر يتعلق بمسالك جبلية ذات منعرجات خطرة.
في مسالك الإقليم كانت هناك حركة غير اعتيادية لم يألفها السكان، بسبب قوافل التضامن. فقد نقل إليهم حس التضامن الأغطية والألبسة والخيام والأكل والماء والدواء والشمع والحفاظات والسكر والغاز، وغيرها من الأساسيات وغير الأساسيات، في وقت اختار آخرون أن يمنحوا النقود مباشرة للمتضررين الذين يجدونهم بجانب الطريق، فيما اختار غيرهم أن يساعدوا في عمليات البحث بين الأنقاض أو المشاركة في وضع الخيام التي تهيئها السلطات المعنية في المنطقة لإيواء الأسر.
هذه المسالك الوعرة المرتفعة، التي تمر من وسط دواوير، وحتى تلك المقطوعة بسبب تساقط الحجارة، لم تمنع هذه المساعدات التضامنية من الوصول إلى حيث يوجد من ستُفرحهم قنينة ماء أو زيت أو علبة سكر أو شاي أو حزمة أغطية ولحاف…
ولم تمنع وعورة التضاريس من وصول المساعدات إلى أماكن قصيّة مختبئة وسط الجبال، إذ تطوع شباب وضمنوا استمرار تدفقها، إذ بعد انتهاء المسير بالعربات، تبدأ رحلتهم سيرا وسط الجبال والوديان حاملين معهم المؤونة إلى حيث يجب أن تصل.
وفاء حمريفو، سيدة من أفراد الجالية المغربية في فرنسا، التقيناها في دوار “أدردور” الذي تُوصلك إليه منعرجاتٌ شديدة الارتفاع تقطعها الحجارة المتساقطة بين حين وآخر.
نقلَتها الرغبة في مساعدة المتضررين إلى هذه المناطق الجبلية، هي وأعضاء من جمعية ثقافية توجد في مارسيليا، ومثلهم كثيرون. قالت إن فكرة المجيء إلى الحوز انطلقت من مجموعة فايسبوكية أنشئت مباشرة مع الزلزال، وبسرعة اجتمع فيها أزيد من 300 متطوع.
على غرار العشرات من الذين جاؤوا من خارج المملكة، ظلت تتنقل هي ومن معها من المتطوعين بين الدواوير، ولم تقتصر مهمتهم على توزيع المواد الغذائية والضروريات اليومية، بل أيضا تقديم المساعدة الطبية بحكم طبيعة عملهم.
هذا النوع من المساعدة الطبية التطوعية بدا جليا أيضا في المراكز والمستشفيات في أمزميز وأسني وتلات نيعقوب وإيغيل، حيث حلّ، منذ اليوم الأول (السبت 9 شتنبر 2023)، أطباء وممرضون ومسعفون متطوعون، متخصصون في الجراحة والأعصاب والعظام والتوليد وطب الأطفال… تعاونوا جميعا لكي يتم علاج المصابين وحتى المرضى. ومن بينهم أطباء نفسانيون أيضا، جاؤوا لدعم الذين مازالت تحتفظ ذاكرتهم بمشاهد الرعب، خصوصا الأطفال.
مجتمع مدني نشيط
ألغى الزلزال، مؤقتا، المساطر الإدارية التي تُحدد شروط استضافة جمعيات لجمعيات أخرى لأهداف إنسانية، إذ لا وقت بعدَ الذي وقع، ووجب تسهيلها لكي تمضي الأمور بسلاسة وسرعة حتى تصل المساعدات القادمة في قوافل من كل مدينة إلى المتضررين.
فإلى جانب تدخلات القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية والدرك الملكي والقوات المساعدة والسلطات المحلية، كان دور المجتمع المدني بارزا أيضا في التدخلات الميدانية، بحركية جمعياته وفعالياته طيلة الأيام الأولى بعد حدوث الزلزال.
لجأت جمعيات كثيرة إلى التنسيق والتعاون بينها، لتأطير كل تحركاتها وتحديد أولويات السكان وألا يكون عملها عشوائيا، إذ هناك دواوير بعيدة وبالكاد فُتحت المسالك الوعرة نحوها. لذلك تأخرت المساعدات في الوصول إلى ساكنيها في اليومين الأولين، كما أكدت الفاعلة الجمعوية خديجة باش بدوار “إيمزاين” المحاذي لنهر “إيمي نتالا” (جماعة أنكال).
هذا التدفق الإحساني التطوعي ظهر جليا في منتصف النهار، إذ في تلك الفترة تكون القوافل قد وصلت بعد قطعها أميالا قادمة من مختلف المدن. وتستمر الوتيرة إلى غاية مغيب الشمس، مع عودة هذه القوافل في اتجاه مراكش أو تارودانت أو شيشاوة.
كان واضحا كيف أن لتأطير عمليات التوزيع أهمية كبيرة، في ظل هذه الطرقات المتعرجة الوعرة التي بسببها حدثت ازدحامات و”بلوكاج” في أكثر من نقطة، نظرا للعدد الهائل من العربات والسيارات والشاحنات وحتى الدراجات.
لذلك أطّر هذا التنسيق الجمعوي اتجاهات هذه المساعدات، إذ أن عددا كبيرا من المحسنين والمتطوعين يجهلون تضاريس وأولويات الدواوير، وغالبا ما تجدها مركّزة في نقط دون أخرى.
أكدت لنا باش أن التأطير لا يكون إلا بتنسيق تام مع السلطات المحلية، وهو ما ساهم في ظهور نقط تجميع هذه المساعدات قبل توزيعها.
وكما عاين الطاقم خلال وجوده بالمنطقة، لا تتم عملية التوزيع دون حضور السلطات المحلية والمنتخبة، وكذا عناصر القوات المساعدة والدرك الملكي، ويتم إعداد لوائح وأعداد المستفيدين من هذه المساعدات يوميا.
وأكدت الفاعلة الجمعوية أن العمل سيتواصل لكي يجد السكان ما يدفئون به أجسادهم، لأن درجات الحرارة بدأت تنخفض في هذه المناطق الجبلية.
التدريس.. مستقبل لابد من ضمانه وإن كان وسط الخيام
يبلغ عدد المتمدرسين في الأقاليم المتضررة من الزلزال 650 ألفا، 60 ألفا منهم هم المعنيون، لأن مؤسساتهم متضررة، إذ وصل عددها إلى 1050، منها 60 مؤسسة انهارت تماما. هذا ما كشف عنه شكيب بنموسى، وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، في أول خروج إعلامي له (الأربعاء 27 شتنبر 2023) للحديث عن الحصيلة النهائية وما الذي تريد الوزارة فعله.
بحسب أرقام الوزير، تم تنقيل 9000 تلميذة وتلميذ من المستويين الإعدادي والثانوي إلى مؤسسات أخرى، سواء خارج الأقاليم المتضررة أو داخلها، وبالموازاة مع ذلك يُعاين متخصصون في البناء المؤسسات المتضررة لمعرفة درجة خطورتها على المتمدرسين.
ولم يتم تنقيل هؤلاء التلاميذ إلا بعد موافقةٍ مكتوبة من الآباء والأمهات، أما تلاميذ المستوى الابتدائي فعددهم 50 ألفا، لم يكن ممكنا أن يتم تنقيلهم، نظرا لسنهم، لذلك تم إعداد قاعات دراسية كاملة وسط الخيام، سواء تلك التي وفرتها الوزارة أو القوات المسلحة الملكية، وكان لها دور إنساني إلى جانب تدخلاتها الميدانية.
وكما كشف بنموسى، تريد الوزارة أن توفر خياما مقاومة للبرد وكذا بناء مؤسسات مقاومة للزلازل، فيما سيتم أيضا مراجعة الجانب البيداغوجي والاعتماد على الأنشطة الموازية، على أن يعود التلاميذ مباشرة إلى مؤسساتهم التي بُنيت أو أعيد إصلاحها.
مولاي الصديق إفلاح، مدير الثانوية الإعدادية لإيغيل، التي لم يعد ممكنا الدراسة بها، لفت في حديثه إلى أن لجنة إقليمية تواصلت مع الآباء والأمهات قبل نقلهم إلى مراكش، للحصول على موافقتهم، وبعدها تم نقلهم عبر حافلات تحت تأمين الدرك الملكي، يوم الأحد 17 شتنبر 2023، صوب معهد القاضي عياض للتعليم العتيق.
وتوقع المدير أن يقضي التلاميذ ما تبقى من الموسم الدراسي في مراكش، مؤكدا أن التأقلم السريع مع الفضاء الجديد والظروف التي تم توفيرها، خصوصا الإيواء في الداخليات، جعل آباء وأمهات يتراجعون عن رفضهم تنقيل أبنائهم وإرسالهم إلى مراكش، حيث توجد في المجموع ثلاث مؤسسات هي التي استقبلت التلاميذ المتضررين (ثانوية بن يوسف، وثانوية محمد الخامس، ومعهد القاضي عياض).
الإحصاء.. مرحلة حاسمة لم تتأخر في البدء
تنفيذا للتعليمات الملكية، خرجت، منذ الأسبوع الأول بعد الزلزال، لجان إقليمية لتُحصي المباني والأسر المتضررة.
وقف طاقمتا على مراحل عملية إحصاء جرت في المدينة القديمة لمراكش، وأيضا في دوار “تافكالت” في جماعة أمزميز، لعدّ المنازل التي تضررت بسبب الزلزال الذي شهده إقليم الحوز.
وتستهدف النسخة الأولى من برنامج إعادة الإيواء، التي تم تقديمها بين يدي جلالة الملك محمد السادس وتم إعدادها من قبل اللجنة الوزارية التي تم تشكيلها بتعليمات ملكية سامية، حوالي 50 ألف مسكن انهارت كليا أو جزئيا على مستوى الأقاليم الخمسة المتضررة.
في المدينة القديمة لمراكش، يتعين على المتضرر وضع شكاية في الملحقة الإدارية، يوضح من خلالها واضع الشكاية نوعية الضرر الذي أصاب منزله، وعنوانه والوضعية الاجتماعية لصاحبه، ويترك رقمه الهاتفي للاتصال به كمرحلة مقبلة تقوم بها السلطات المحلية وتقنيو مختبر المراقبة.
بعد وضع الشكاية يتم استقبال المعني من طرف قائد الملحقة، برفقة تقنيين ومنتخبين، لاستفساره عن وضعية المنزل، وهل يرى أنه من الواجب هدمه كليا أو إصلاحه فقط.
بحسب ما شرحه محمد الإدريسي، نائب عمدة مراكش، تتوجه لجنة من تقنيين ومهندسين إلى المنزل، وتتم معاينة وضعيته، لكي يتم تحديد مصيره، إما بالهدم أو الهدم الجزئي أو الإصلاح فقط، ويتم إنجاز تقارير يومية عن هذه المعاينات ومنحها للسلطات المحلية.
وفي حال الوقوف على وضعية تستدعي الاستعجال، يتم في الحين إخبار السلطات لكي يتم الشروع في هدمه كليا أو جزئيا في أقرب وقت.
وعند حضورنا لهذه المعاينات، قررت السلطات المحلية إغلاق بعض الممرات في المدينة القديمة، لهدم أجزاء من بعض المنازل، بتنسيق بين السلطات المحلية والمنتخبة، كما أخلت منازل أخرى ووضعت أسره في أماكن بديلة، فيما تم تدعيم دور أخرى بأعمدة حديدية ريثما يتم اتخاذ قررا بشأنها.
وتكمُنُ صعوبة الوضع في المدينة القديمة لمراكش، في الخطورة التي تشكلها بعض الدور المهددة على الجيران، حيث تجد منزلا غير متضرر لكن في حالة خطر بسبب منزل مجاور مهدد في أي لحظة.
أكرم قصار، مهندس مدني في مجال الخبرة شارك في عمليات المعاينة بمراكش، لفت إلى أن اللجنة التي تُحصي وتُقيم حالة الدور تضم ثمانية مختبرات للتجارب.
أما في أمزميز، إحدى الجماعات المتضررة من الزلزال، فقد تم إطلاق هذه العملية بحي “سور الجديد” من قبل لجنة تتكون من ممثلي السلطة المحلية والجماعة الترابية أمزميز، وقسم التعمير بإقليم الحوز، والوكالة الحضرية بمراكش، وأحد المختبرات، والوقاية المدنية، والدرك الملكي والمجتمع المدني.
كما حضر طاقمنا عملية أخرى في “دوار تافكاغت” حيث كانت مكونة من ممثلي السلطات المحلية والمنتخبة، وتم بشكل مباشر إحصاء المنازل المتضررة. في هذا الدوار لم يتبق إلا حوالي أربعة منازل لم تتعرض للانهيار، لذلك وصل عدد المباني المهدمة إلى أزيد من 120.
وفي أنكال، أوضح رئيس الجماعة، إيدار أنجار، أن هناك لجنة إقليمية تضم مختلف السلطات المعنية، تعاين المنازل للوقوف على حجم الضرر، إذ في كل يوم يتم إحصاء حوالي 100 منزل.
ورأى رئيس الجماعة أنه يتوجب تحويل موضع عدد من الدواوير، لأنها مهددة في أية لحظة بالانهيارات، خصوصا مع الجبال الشاهقة التي تطل على السكان، مضيفا أنه يتعين في هذا الإعمار أن يكون هناك تصور على المدى البعيد.