بوادر انفراجة في الأزمة الصامتة بين الجزائر وفرنسا
كشفت رسالة السفير الفرنسي الجديد إلى قصر المرادية بالجزائر عن مساع فرنسية لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين تؤسس للتقارب وتنهي مرحلة الأزمة الصامتة التي كانت مفتوحة على كل المآلات في ظلّ مناخ سياسي ودبلوماسي معقّد.
تلقى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون رسالة خاصة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون سلمها إياه سفير فرنسا الجديد ستيفان روماني، دون أن يكشف عن فحواها، غير أن التصريح الذي أدلى به بعد تسليمه أوراق اعتماده يوحي بأن باريس بصدد فتح صفحة جديدة تنهي فترة من الأزمة القائمة بين البلدين، ولا يستبعد أن تكون خطوة أولى لعودة الجزائر إلى محورها التقليدي بعد خيبة بريكس.
ويرجّح أن تكون الرسالة قد تضمنت رغبة الإليزيه في طي صفحة الأزمة القائمة بين البلدين، خاصة في ظل الارتباك الذي يلف موقع فرنسا في القارة الأفريقية، بعد الانسحاب المتلاحق من عدة دول. وأكد السفير الجديد في تصريح على أن “الجزائر وفرنسا تربطهما علاقة ذات كثافة متميزة، وأن السياق الحالي يدعو إلى تبني حوار تسوده الثقة بخصوص جميع التحديات الكبرى التي تؤثر على البيئة التي ينشط بها البلدان”.
وأضاف “لقد أعلمت الرئيس تبون بالموقف الذي تتبناه فرنسا في علاقتها مع الجزائر، لاسيما وأن الأمر يتعلق بعلاقة ذات كثافة متميزة تجعل من فرنسا والجزائر مع بعضهما البعض، بحكم التاريخ والجغرافيا، كما أن المستقبل يفرض علينا العمل المشترك أيضا”. وتخيّم قطيعة غير معلنة بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة، حيث ألغيت زيارة للرئيس تبون إلى فرنسا كانت مبرمجة منتصف شهر يونيو الماضي، بينما توجه حينها إلى روسيا، الأمر الذي اعتبر آنذاك حسما من الجزائر لخياراتها الإستراتيجية نحو الشرق، بعدما ارتبطت طيلة العقود الماضية بالغرب.
◙ قطيعة غير معلنة تخيّم على العلاقات بين البلدين، حيث ألغيت زيارة لتبّون إلى فرنسا كانت مبرمجة في يونيو الماضي
وأثارت الوكالة الرسمية الجزائرية سجالا حادا تجاه فرنسا من خلال برقية ترجمت موقفا سياسيا داخل السلطة، وإن حملت ردا على تغطية صحفية لقناة “فرانس 24” للحرائق التي شهدتها الجزائر خلال الصيف الماضي، واتهمتها بـ”الانتقائية المغرضة”، بالتركيز على منطقة القبائل لإثارة نعرات جهوية وعرقية في البلاد، فإنها ترجمت موقفا داخل السلطة يناهض أي تقارب بين البلدين.
وكان قرار الجزائر الأخير بغلق المجال الجوي أمام سلاح الطيران الفرنسي للحيلولة دون مروره إلى النيجر، حلقة جديدة في مسلسل الأزمة القائمة بين البلدين، حتى وإن كان ظاهره دعم المقاربة السلمية في حل أزمة البلد المجاور للجزائر، خاصة وأنها أطلقت مبادرة سياسية ترفض التدخل العسكري الخارجي وتحض على مخرج سياسي لاستعادة الشرعية الدستورية.
وأبرز السفير الفرنسي ما أسماه بـ”كثافة العلاقات البشرية واعتماد مجتمعي البلدين على بعضهما البعض، خاصة أن ثمة الكثير من الأمور التي تربط البلدين”، في إشارة إلى أهمية الجالية الجزائرية في فرنسا والأفراد مزدوجي الجنسية أو ذوي الأصول الجزائرية، الذين يشكلون ثقلا اجتماعيا بما يحمله من اهتمامات وانشغالات ودور في المجتمع الفرنسي.
ودعا المتحدث إلى “تبني حوار تسوده الثقة بين البلدين حول جميع التحديات الكبرى التي تؤثر على بيئتنا التي ننشط فيها، وضرورة خلق علاقة جوار بين بلدينا، ووضع أجندة مشتركة، والاستفادة من وجود الجزائر في مجلس الأمن الدولي بداية من مطلع العام القادم لتكثيف حوارنا حول كبرى المسائل السياسية”.
وكان البلدان قد عقدا الأسبوع الماضي اجتماعهما الدوري للمشاورات السياسية بباريس على مستوى الأمينين العامين لوزارتي الشؤون الخارجية، ودرسا الملفات ذات الأولوية للتعاون الثنائي. وأفاد بيان للخارجية الجزائرية أن “الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية لوناس مقرمان ترأس أشغال الدورة العاشرة للمشاورات السياسية الجزائرية – الفرنسية مناصفة مع نظيرته الفرنسية آن ماري ديكوت”.
وأضاف “هذه الدورة سمحت للطرفين بإجراء تقييم مرحلي استعدادا للاستحقاقات الثنائية المرتقبة، مع التركيز على الملفات ذات الأولوية في مجال التعاون الثنائي، وأن المحادثات تركزت أيضا حول القضايا الإقليمية والدولية الراهنة ذات الاهتمام المشترك”. وتعقد المشاورات السياسية الجزائرية – الفرنسية بشكل دوري وبالتداول بين الجزائر وباريس، حيث احتضنت العاصمة الجزائرية أشغال الدورة التاسعة في 25 يناير الماضي.
ومنذ بداية القطيعة غير المعلنة بين الطرفين في شهر يونيو الماضي، تراجعت الاتصالات بينهما بشكل لافت، والتزمت باريس بالبراغماتية الدبلوماسية، بينما شنت الوكالة الرسمية الجزائرية هجوما متواصلا منذ حادثة فرار المعارضة الفرنسية – الجزائرية أميرة بوراوي من الجزائر إلى باريس مرورا بتونس.
◙ العلاقات الجزائرية – الفرنسية التي يطبعها التذبذب منذ عدة عقود مرهونة في الظرف الراهن بمدى الإجماع في مصادر القرار الجزائري حول مسارها
كما لم تفوت الفرصة في التعليق على أحداث العنف التي شهدتها فرنسا نهاية شهر يونيو الماضي غداة مقتل شاب من أصول جزائرية على يد الأمن الفرنسي، وهو الفعل الذي وصفته الخارجية الجزائرية بـ”الوحشي والمأساوي”، وعبرت عن “متابعتها القريبة لوضع الجالية الجزائرية في فرنسا”.
كما أكد السفير الفرنسي أنه سلم “رسالة شخصية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنظيره الجزائري عبدالمجيد تبون”، مشيرا إلى أنه قد استهل مهمته في الجزائر “بأجندة إيجابية”، وأعرب عن “تحمّسه الشديد” لهذه المهمة في بلد وصفه “بالمضياف جدا والقريب من فرنسا”.
ولفت السفير الفرنسي إلى أن “العلاقة بين الجزائر وباريس تطبعها خصوصية لم تشهدها فرنسا مع باقي دول العالم، وأن ذلك يشكل دافعا للتقدم سوية وكذلك بدفع علاقتنا الثنائية نحو مستقبل أفضل، وتحقيق مشاريع مشتركة كبرى في إطار الجزائر الجديدة”.
ويرى محللون سياسيون أن العلاقات الجزائرية – الفرنسية التي يطبعها التذبذب منذ عدة عقود، رغم مراحل التقارب التي بلغتها في بعض الفترات، مرهونة في الظرف الراهن بمدى الإجماع في مصادر القرار الجزائري حول مسارها، في ظل وجود تيار قوي داخل السلطة الجزائرية يدفع إلى التباعد مقابل الارتماء في أحضان القطبين الروسي والصيني قبل خيبة بريكس، حيث كان الرهان قائما على الانضمام إلى المنظمة وإطلاق عهد إستراتيجي جديد.