تدهور العلاقات الفرنسية مع المغرب ووصولها إلى ما وصلت إليه، مسؤولية الرئيس المقيم في قصر الإليزيه. لا يمكن تحميل موسكو أوزار فرنسا الماكرونية التي أخطأت في قراءة الوضع السياسي والدبلوماسي داخل أفريقيا فاتجهت باللوم إلى روسيا واتهمتها بزعزعة الاستقرار الأفريقي. الأخطاء التي ارتكبها إيمانويل ماكرون خاصة في علاقات فرنسا مع المملكة المغربية، أكثر حدة وغباء، ويتحمل وحده المسؤولية عن تراجع نفوذ بلده في القارة.
لننظر كيف تصرف ماكرون مع المغرب؛ سلسلة من الأخطاء القاتلة، سياسيا ودبلوماسيا وبروتوكوليا، كان أكثرها غباء مخاطبة الشعب المغربي مباشرة، وكأن هذا الشعب ليس لديه رئيس ولا مؤسسات ولا دولة ولا قانون يحكمه. أقل ما يمكن قوله إن ماكرون بخطابه تجاوز بشكل سلبي كل الأعراف والتقاليد المتبعة.
وكان ماكرون قد اتهم السياسيين البريطانيين بعدم احترامه، وهو ما جعله يتمادى في عدائه للمغرب بوصفه نظاما ملكيا. وزاد في منسوب عدائه بعد أن قبل المغرب مساعدة بريطانيا (الملكية) في زلزال الحوز، ورفض المساعدة المعروضة من ماكرون، وهذا ما دفعه إلى اختبار مخاطبة الشعب المغربي مباشرة، كما يخاطبه الملك، وهو تصرف خاطئ لن يغفر له أبدا، فهو في ذلك تعدى على شرعية مؤسسة ملكية وعلى شعب وحكومة.
◙ نهج ماكرون تاه بين عنجهية وقراءة للتقارير الاقتصادية والاستخباراتية واستخدام لغة متحجرة ومتعالية ومنفصلة عن الواقع. والنتيجة كما نرى، فقدان علاقات كانت في السابق أكثر توازنا
ويبحث ماكرون الآن عن تعويض الموقف المغربي باستضافة تشارلز الثالث ملك بريطانيا والملكة كاميلا في زيارة رسمية إلى فرنسا، لكن هذا لن يعيد عقارب الساعة، ولن يعكس القرارات والمواقف السياسية السلبية.
النظام الملكي في المغرب له خصوصيته وتقاليده الدبلوماسية والبرتوكولية، لن يحظى ماكرون بلقاء مع العاهل المغربي الملك محمد السادس في ظل الوضع السياسي الحالي، ولن يكون الرئيس الفرنسي ملكا بلياقة الملوك المغاربة ودبلوماسيتهم وحكمتهم ومعرفتهم وسلطتهم الدينية والدنيوية، التي غار منها يوما سلفه فرانسوا ميتران في عهد الراحل الملك الحسن الثاني، وكان يحن دائما إلى عهد الملكية في بلده للاستمرار في الحكم.
إخفاقات دبلوماسية وسياسية بالجملة للرئيس الفرنسي ماكرون مع المملكة المغربية ومع مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، ومؤخرا النيجر. ولن نستغرب أن تنضم ساحل العاج والسنغال إلى اللائحة. حتى أقوى مؤيدي ماكرون سيجدون صعوبة في تقديم ما يؤكد أنه كان ناجحا في أفريقيا.
اختارت حكومة ماكرون اختبار هجوم فرنسي مباشر وشرس وغير أخلاقي على الجبهة الداخلية للمغرب، سواء من طرف الرئيس مباشرة أو من طرف إعلامه المكتوب والمسموع والمرئي. اختيار لم يكن موفقا بينما المغرب يمر بحالة استنفار قصوى خلفها الزلزال، وأرادت حكومة فرنسا استغلال الكارثة لفرض سياستها وشروطها.
إستراتيجية ماكرون، هي عدم وجود إستراتيجية.. لا توجد لديه خطط بديلة، ولا أفكار خلاقة للتعامل مع الواقع الجديد.
الرد الملكي والشعبي على الجمهورية الفرنسية لم يترك مجالا للشك في أن المغرب كشف الخطط التي تمت فبركتها بين مكاتب الإليزيه ومكاتب استخباراته المتعددة. خطط تهدف إلى كسر المد المجتمعي والتخطيط الملكي لكل صغيرة وكبيرة في التعامل مع تداعيات الزلزال وتطويقه في أقصر وقت رغم الصعوبات الميدانية وخصوصية تضاريس المنطقة.
لم يستوعب الرئيس الفرنسي ومعه المخططون لسياسته الخارجية أن يأتي الرد سريعا من الرباط.. نحن لا نريد مساعدتكم، لدينا مواردنا وأصدقاؤنا. جهود قادها الملك محمد السادس بكل جدية وحضور واجتماعات فعالة مع المسؤولين المباشرين على ورش إعادة الحياة إلى المناطق المنكوبة.
◙ انضمام ماكرون إلى إدارة هولاند كمستشار، وترقيته بسرعة في المناصب لم يوفرا له الحنكة ومعرفة مكانة المغرب في المنطقة وفي أفريقيا وعلى المستوى الدولي أيضا
ومع تصاعد السعار الفرنسي، كانت جهود المغرب متواصلة صعودا نحو جبال الأطلس للتعامل مع كل تفاصيل هذه الفاجعة. لا وقت لدينا إلا للعمل ولملمة الجراح وإعادة الأمور إلى سابق عهدها.. عمرانا واقتصادا واستئنافا للدراسة، دون التفريط في التراث المعماري الفريد للمنطقة.
لا جدال في أن فرنسا فقدت تواجدها عسكريا واقتصاديا داخل أفريقيا، وسيأتي الدور لا محالة على الجانب الثقافي وعلى اللغة، لأن الموجة عالية لن يستطيع ماكرون ولا من يأتي من بعده معالجتها، لكن قد يتم الحد من أثرها السلبي على العلاقات الخارجية لباريس.
في محاولة يائسة وغير مجدية خصص ماكرون الكثير من جهده لاستعادة النفوذ الفرنسي في القارة. بعد أسبوعين فقط من انتخابه رئيسا، قام بأول زيارة له إلى أفريقيا في مايو 2017، وكانت هناك 17 رحلة أخرى جنوبا للضغط على مختلف رؤساء الدول.
عندما تحدث ماكرون عما أسماه “رؤية جديدة للشراكة مع الدول الأفريقية”، نسي أنه استيقظ متأخرا. كان توقيت أفريقيا مختلفا عما عهدته بلاده منذ ستينات القرن الماضي. تخفيض الوجود العسكري الفرنسي لم يكن منة رئاسية في ظل الانتقال الجاري الآن لإبعاد الهيمنة الغربية والفرنسية بشكل خاص عن المنطقة. هناك حاليا إعادة توزيع لمناطق نفوذ الثروة والقوة والسلطة الثقافية تتجه نحو التعددية والتعاون المتبادل حسب الكثير من الباحثين في العلاقات الدولية.
المغرب يعي جيدا ما يحدث في النسخة المعدلة للعالم في ظل العولمة خارج نطاق الغرب، ويعمل على إيجاد منطقة مريحة ضمن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي ستبرز خلالها الصين والهند ضمن أكبر اقتصاديات العالم بحلول عام 2050، حسب تقديرات معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية.
عكس ذلك يبدو أن فرنسا تحاول التمسك بخيوط اللعبة لإبقائها كما كانت عليه في الحقبة السابقة، ولم تستطع باريس في عهد الاشتراكيين الذين حكموا الإليزيه من جاك شيراك وفرانسوا هولاند مرورا بنيكولا ساركوزي وصولا إلى ولاية ماكرون التحلل من النظرة الكولونيالية المتآكلة التي دعمت يوما قوتها.
◙ ماكرون يبحث الآن عن تعويض الموقف المغربي باستضافة تشارلز الثالث ملك بريطانيا والملكة كاميلا في زيارة رسمية إلى فرنسا، لكن هذا لن يعيد عقارب الساعة، ولن يعكس القرارات والمواقف السياسية السلبية
نهج ماكرون تاه بين عنجهية وقراءة للتقارير الاقتصادية والاستخباراتية واستخدام لغة متحجرة ومتعالية ومنفصلة عن الواقع. والنتيجة كما نرى، فقدان علاقات كانت في السابق أكثر توازنا.
في العام الماضي تخلص من السفراء المفوضين ومستشاري الشؤون الخارجية، واستبدل وزير خارجيته المخضرم جان إيف لودريان بكاترين كولونا السفيرة السابقة لدى المملكة المتحدة، ليفقد بذلك دبلوماسيا ضليعا في السياسة الأفريقية ويتمتع بخبرة واسعة.
انضمام ماكرون إلى إدارة هولاند كمستشار، وترقيته بسرعة في المناصب لم يوفرا له الحنكة ومعرفة مكانة المغرب في المنطقة وفي أفريقيا وعلى المستوى الدولي أيضا. لا حاجة إلى الجدل بأن القرارات الصادرة عن ماكرون قوضت قنوات التواصل والمعرفة والخبرة مع المملكة، ولم تستطع محاولاته الفاشلة تطويرها بما يتناسب مع المتغيرات المتسارعة عالميا، الشيء الذي خلق شعورا بخيبة الأمل والارتباك لدى نخبة فرنسية لا تريد انهيار العلاقات إلى هذا المستوى.
ما قاله ماكرون في واحد من خطاباته بخصوص “عهد جديد من التعاون بين فرنسا وأفريقيا ومن ضمنها المغرب، مبني على علاقات محترمة ومتوازنة ومسؤولة، للنضال معا من أجل القضايا المشتركة، والدفاع عن مصالحنا وكرامتنا”، ما هو سوى كلام للاستهلاك الإعلامي لم يستطع تطبيق حرف واحد منه.
خلاصة الكلام، انتهى عصر فرنسا الأفريقية. مؤكد أن الرئيس الفرنسي ماكرون لن يبقى في الحكم إلى الأبد مهما حصل.