يستطيع الرئيس الأمريكي أن يرفع سماعة الهاتف، وأن يقدم العزاء إلى العاهل المغربي، كما فعل الاثنين الماضي، وفقا لبيان البيت الأبيض، لكن لا مكالمات ولا اتصالات حتى الآن بين الرئيس الفرنسي والملك محمد السادس.. ولا لقاءات أيضا بين كبار المسؤولين في البلدين، وفضلا عن ذلك لا تبدو الرباط في عجلة من أمرها لتعيين سفير جديد لها في باريس، بعد انتهاء مهمة محمد بنشعبون في فبراير الماضي.
أما الأدهى من ذلك فهو أن المساعدات التي عرضتها فرنسا على المغرب بعد كارثة الزلزال التي أصابته، رفضت! فما الذي بقي بعدها إذن للرئيس الفرنسي يفعله، حتى يكسر حلقة الجليد التي ظهرت منذ شهور على سطح العلاقات بين بلاده وواحد من أهم شركائها في الشمال الافريقي، أي المغرب، وأخذت بالتمدد والتوسع بمرور الوقت؟ ربما أنه سيقدم أخيرا كبش فداء، ويضحي مثلا بوزيرة خارجيته معلقا عليها شماعة فشله في إدارة سياسته الخارجية، لا في المنطقة المغاربية فحسب، بل في كامل القارة الافريقية أيضا.
احترقت باكرا ورقة التدخل الإنساني التي أخرجها الإليزيه، وبات ساكنه بالنسبة لكثير من المغاربة رمزا حيا لكل مظاهر السيطرة والاستعلاء الاستعماري، ولم يعودوا قادرين على قبولها
وقد تبدو الزلة الأخيرة التي وقعت فيها الوزيرة، حين قالت يوم الجمعة الماضي، وفي تصريح لإحدى القنوات الإخبارية الفرنسية، إن زيارة ماكرون إلى المغرب ما زالت قائمة، ليرد عليها مصدر رسمي مغربي بأن الزيارة «ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة»، كافية لتبرير ذلك. غير أنه لن يكون من السهل على ماكرون أن يقدم وفي هذا الظرف بالذات على مثل تلك الخطوة. فهو ليس معتادا على أن يقبل، ولو من حيث المبدأ، بالإقرار بأن هناك خللا ما أو تقصيرا من جانب فرنسا في التعاطي مع تلك الأزمة، ويفضل بدلا من ذلك أن يلقي اللائمة فقط على أطراف مجهولة يحمّلها وحدها مسؤولية وضع العصي في الدواليب، وتعطيل كل جهوده ومساعيه لإعادة تلك العلاقات إلى مسارها الطبيعي. ولنتذكر هنا جيدا كيف قال مثلا في فبراير الماضي، إنه سيواصل المضي قدما في تعزيز علاقة فرنسا بكل من الجزائر والمغرب، بعيدا عن «الجدل الراهن» على حد تعبيره. وكان يعني في ذلك الوقت، قرارا صادق عليه البرلمان الأوروبي، يحث السلطات المغربية على احترام حرية الرأي والتعبير، واعتبره البرلمان المغربي «استهدافا» و»ابتزازا للمملكة»، وسارع عبر بيان أصدره، ورد عليه للإعراب «عن خيبة الأمل إزاء الموقف السلبي والدور غير البناء الدي لعبته خلال المناقشات في البرلمان الأوروبي، والمشاورات بشأن مشروع التوصية المعادية لبلدنا، بعض المجموعات السياسية المنتمية لبلد يعتبر شريكا تاريخيا للمغرب»، في إشارة واضحة إلى فرنسا. ومن المؤكد أن الرئيس الفرنسي يفضل الآن أن يستمر في سياسة النفي والإنكار والهروب إلى الأمام، بدلا من مواجهة المشكل ورؤية الأشياء على حقيقتها، ولن يكون مستبعدا في تلك الحالة أن يكرر، إن أمكنه ذلك بالطبع، ما فعله في مناسبة سابقة حين نفى بشكل تام أي دور لفرنسا في تفاقم الأزمة مع المغرب، طارحا سؤالين ومجيبا عنهما على النحو التالي: «هل كان ذلك – أي قرار البرلمان الأوروبي ـ صنيعة فرنسا؟ كلا.. هل صبّت فرنسا الزيت على النار؟ كلا.. يجب أن نمضي قدما رغم هذه الخلافات». ولأجل ذلك فإنه سيكون مستبعدا أن يقدم على إقالة كاثرين كولونا من منصبها، وحتى إن اضطر إلى ذلك، فإنه لن يكون متوقعا أن تكون لذلك القرار أية تداعيات أو انعكاسات دراماتيكية كبرى على الملف المغربي بالذات، خصوصا مع بقاء معظم خيوط اللعبة الخارجية بيد ساكن قصر الإليزيه. ومن الواضح أن خروج باريس من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، قد لا يرتبط بتغيير أشخاص بقدر ما يتعلق وبالأساس، بتعديل مقاربات وسياسات، كما أنه يبدو متعدد الوجوه، فعلاقتها بالجارة المغاربية الأخرى، أي الجزائر، ليست في أفضل حالاتها، وما تتعرض له من نكسات متتالية في الساحل الافريقي يزيد حتما من تعقيد مساعيها لاستعادة دورها التقليدي في شمال القارة. والسؤال الذي يطرحه الفرنسيون بحدة اليوم هو من المسؤول عن كل ذلك التراجع المريع؟ وهل سيكون بإمكان فرنسا أن تستعيد في غضون الشهور والسنوات المقبلة بعضا من هيبتها المفقودة في مستعمراتها السابقة؟ إنها لم تفق بعد من آخر الصفعات التي تلقتها بعد كارثة الزلزال المغربي، فقد تبددت كل الأحلام والآمال التي راودت ماكرون في أن تصل الطائرات الفرنسية قبل غيرها إلى مطار مراكش حاملة معها أطنانا من المساعدات الغذائية والخيام والمواد الطبية لضحايا الزلزال العنيف، الذي ضرب منطقة الحوز ليل الثامن من الشهر الجاري. ولعل أكثر ما جرح الكبرياء الفرنسي هو أن المغاربة رحبوا بمساعدات الغريمين الإنكليزي والإسباني.
ومع أن المقارنة تبدو هنا وبكل المقاييس مهزوزة ومختلة، لكن هل نسي البعض كيف استُقبل الرئيس الفرنسي قبل عامين في بيروت، وفي أعقاب انفجار المرفأ استقبال الأبطال، وكيف رحب به كثير من اللبنانيين وطلبوا منه أن ينتشلهم وينقذهم من الوضع الصعب الذي يعيشون فيه، بل وصل الأمر بعشرات الآلاف منهم حد التوقيع على عريضة دعوه فيها لأن يعيد الانتداب الفرنسي إلى لبنان؟ إن الفرنسيين يدركون ومن دون شك أن المغرب ليس لبنان، لكن ذلك لا يعني أن رئيسهم لم يتطلع لأن يلعب في البلد المغاربي أيضا دور المنقذ، أو البطل الذي أداه بمهارة في الشرق. غير أن المحصلة لا تبدو وردية فقط، بل كارثية، فقد احترقت باكرا ورقة التدخل الإنساني التي أخرجها الإليزيه، وبات ساكنه وبالنسبة لكثير من المغاربة رمزا حيا لكل مظاهر السيطرة والاستعلاء الاستعماري، التي لم يعودوا قادرين على قبولها، بل وتحول بنظرهم إلى عقبة حقيقية أمام الخروج بالعلاقات الفرنسية المغربية من حالة الشلل التي أصابتها. ولعل البعض قد يقول الآن، إن ماكرون قد فعل كل ما بوسعه وسعى جاهدا للاتصال مثلما ذكرت ذلك عدة مصادر إعلامية، ومنذ الساعات الأولى للزلزال بالعاهل المغربي ليعزيه، ويعرض عليه المساعدة، ولكن الملك محمد السادس رفض على ما يبدو الحديث إليه، ما اضطره لأن يكتب بعدها على منصة أكس: «نشعر جميعا بحزن شديد بعد الزلزال الرهيب الذي ضرب المغرب. فرنسا على استعداد للمساعدة في تقديم الإغاثة الأولية».
فما الذي يمكن أن يفعله في تلك الحالة؟ ربما أن يفهم دوافع الغضب المغربي وأن لا يحاول الركوب على الكوارث قد يرد المغاربة، ومع أنه يعرف جيدا ما يريدونه منه، فإن الحاجز الأكبر الذي يجعله مترددا في الحسم في مواقفه وتوجهاته والخروج من المنطقة الرمادية هو أنه يرى المشهد الإقليمي من زاوية واحدة لا غير، ولا يزال يعتقد أن ما قد يعتبرها نوبات تمرد قصيرة، ستبقى محدودة، ولن تصل إلى حدها الأقصى .أما هل ستكون حساباته صحيحة أم لا؟ فالأيام ستجيب.