الملل الجزائري من “بوليساريو”

عسكر المرادية لم يعودوا راضين عن أداء أزلامهم في تندوف

ما كان نظام العسكر في الجزائر يتوقع أن صنيعته “بوليساريو” ستتحول يوما إلى عبء يثقل كاهله، تجتث من خزينته أموالا ضخمة، وتأخذ من جهد دبلوماسيته الشيء الكبير، دون نتيجة تذكر، بل وكلما حاول أن يجد لها دعما في محيطه، إلا وتتوالى عليه الانتكاسات، وتزداد عزلته دوليا.
هذا هو حال أنظمة الاستبداد، التي تعيش على التآمر منهجا وعملا، وتصنع لنفسها أدوات خارج منطق الدولة والقانون، غير أنها سرعان ما تجد نفسها رهينة لمخططاتها التي تنقلب عليها، ولأدواتها التي تصبح حملا يصعب التخلص منه.
يدرك جنرالات الجزائر، في قرارة أنفسهم، أنهم فشلوا تماما في أن يجعلوا من “بوليساريو” ورقتهم الرابحة في صراعهم مع المغرب، بعد أن تحولت إلى جثة ، تآكلت هياكلها، وشاخت قيادتها، وتهاوت كل مشاريعها الوهمية، رغم الأموال الطائلة والإمكانات البشرية الهائلة، التي سخرتها الآلة الاستخباراتية الجزائرية لعجائز الرابوني، الذين لا يحصدون، مع مطلع كل شمس، إلا مزيدا من الفشل في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى في الجزائر نفسها، التي باتت هي الأخرى تشهد تصاعد الأصوات الجزائرية الساخطة، والناقمة على استمرار وجود “بوليساريو” على ترابها، وما يرافق ذلك من استنزاف لميزانيات بلدها، في ظل استفحال الأزمات التي تنخر اقتصاد الجزائر، وعسر المؤونة الذي يهدد المعيش اليومي.
وليس ارتفاع منسوب السخط في أوساط الجزائريين، إلا نتيجة طبيعية لما يلاحظونه من تناقض صارخ بين ما يتم إنفاقه على قيادة الرابوني من مقدرات وطنهم، التي تغطي الحياة الباذخة لأعضاء هاته القيادة، وبين ما يعانيه المواطنون الجزائريون بسبب مشاكل في سعيهم للوصول للمواد الأساسية، من زيت ودقيق وعدس.
عديدة هي مظاهر عدم الرضا لدى الجزائريين تجاه “بوليساريو”. ومنها ما عرفته، أخيرا، أشغال ما يسمى “الجامعة الصيفية لبومرداس”، حيث برزت أصوات بين المحاضرين الجزائريين، ترفض المنطق الذي تشتغل به قيادات “بوليساريو”، والتي ترى في الجزائر البقرة الحلوب، فيما اعتبروه اتكالية مقيتة على الدعم الجزائري، تخفي معالم الأفول الذي أصبح يهدد مشروع الجبهة، دون أن يكون للجزائر أي عائد دبلوماسي أو سياسي يذكر.

وليست مداخلة عبد السلام الكريم، الأستاذ المحاضر في جامعة هواري بومدين، التي أبرز فيها ما اعتبره دليلا على تآكل هياكل “بوليساريو”، إلا دليلا آخر على ما يروج بين النخب الجزائرية داخل الصالونات المغلقة، حول ما تراه من عبثية في المشهد العام. هاته الأصوات الجزائرية التي تسربت من أشغال جامعة بومرداس، لم تكن لتخرج للعلن، بالصوت والصورة، دون إذن ومباركة من جهة أمنية جزائرية ضاقت ذرعا بعجائز “بوليساريو”، وكلفتهم الباهظة دون أي نتائج.
فمن الواضح أن جنرالات الجزائر لم يعودوا راضين عن أداء أزلامهم في تندوف. فما شهدته المخيمات، أخيرا، من أحداث أمنية وصراعات بن الموالين لبعض أعضاء القيادة، التي أدت إلى نشوب تطاحنات قبلية عنيفة، كشفت عن الوهن الذي تعيشه هياكل “بوليساريو”، التي فشلت في إدارة المخيمات، مع بروز نوع من التسابق بين الضباط الجدد في الأمن العسكري الجزائري على ربط صداقات بقيادات الرابوني، من أجل ضمان نصيب في كعكة الدعم المنهوب من قوت سكان المخيم.
هذه كلها عوامل دفعت قيادات المخابرات العسكرية الجزائرية، للتدخل من أجل إحكام قبضتها الأمنية على الوضع بالمخيم، دون أن تكون قادرة على مواجهة الانهيار السريع لمشروعها المفلس. فقد أصبح جليا، وبما لا يدع مجالا للشك، أن “بوليساريو” ولواحقها، من مليشيات عسكرية وتمثيليات ولجان عمل أمنية، ليست إلا بيادق تتسابق لنيل رضا عسكر العاصمة الجزائرية، وتستظل بظل الأجنحة المتصارعة في محيط المرادية، وتتأثر بتدافعاتها، وتضعف لضعفها.
كل المتغيرات التي تعرفها الساحة الدولية لا تزيد أي متتبع للموقف الجزائري إلا اقتناعا بأن نظام العسكر فشل فشلا ذريعا، وهو يراهن على حصان خاسر.
تبون، بوق العسكر الذي كلما تحدث للإعلام، إلا وأصبح مثار سخرية وتندر بين الجزائريين، ملأ، قبل أشهر، الدنيا صخبا واحتفالية كاذبة بانضمام واهم للجزائر لمجموعة “بريكس”، غير أن قمة هذا التجمع، التي انعقدت، قبل أيام، بجنوب إفريقيا، الحليف المفترض لعراب الرابوني، لم تكن إلا عنوانا آخر لمسلسل الفشل الذي بات لصيقا بكل ما هو جزائري.
استبعِدت الجزائر من لائحة الأعضاء الجدد داخل هذا التجمع، وحضر بنبطوش ممثلا عنها، ليبحث خلسة عن صورة ممنوحة من الجنوب إفريقيين، الذين رأوا في حضوره ما يحفظ لهم ماء وجوههم مع أصدقائهم الجزائريين، ولسان حالهم يقول “لم نستطع ضمان مقعد لكم بـ “بريكس”، غير أننا دعونا بنبطوش ليحضر، وهذا يكفيكم”، غير أن ما عمق الأزمة بالجزائر هو انضمام أصدقاء المغرب لتجمع “بريكس”، دون عناء كبير أو زعيق إعلامي كاذب.
فرغم مناورات ومساعي الجزائر لأن تجعل من تجمع “بريكس” منصة أخيرة تعادي من خلالها المغرب، أظهر زعماء هذا التجمع موقفا حازما تجاه هاته المساعي التي تحركها أجندات ضيقة الأفق، بينما تعزز موقف المغرب بدخول حلفائه التقليديين لهذا التجمع، بما يخدم قضاياه، ويضمن له دون شك حضورا أقوى وأقل كلفة وعناء.
لم تعد العلاقة التي تربط الجزائر بـ “بوليساريو” علاقة تكاملية، بين عراب يحشد الدعم، وتابع يحاول إتقان دور الضحية، عله يجلب دعما دوليا أوسع، ويزكي نفسه أمام عرابه ورقة ستبقى رابحة في حروب الجيوسياسة مع جواره.
ظلت “بوليساريو”، لسنوات طويلة، تحاول إفهام النظام الجزائري، بأنها ستبقى وفية لكل مناوراته ضد المغرب، غير أن هذا النظام بات مقتنعا الآن بأن “بوليساريو” التي صنعها، أصبحت تثقل كاهله، في ظل عجزه عن إحداث أي تغيير في التوجه العام الذي تسير عليه، أو إنتاج بديل لشيوخ الرابوني، الذين باتوا، بعد 50 عاما من الجري وراء السراب، عاجزين، أمام التغيرات الجذرية التي تحدث في المشهد الجيوسياسي العالمي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: