فرنسا داخل مستعمراتها السابقة.. وصاية في مهب الريح

ماموني

عملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة كل ما في وسعها للحفاظ على موطئ قدم مهيمن لها في أفريقيا الفرانكفونية، خدمة لمصالحها الاقتصادية والسياسية وحفاظا على معقل أخير يذكّرها بالهيبة المرتبطة بإرث الإمبراطورية، فقد كان الرئيس السابق شارل ديغول طوال فترة حكمه يرى أن “القوة العالمية الفرنسية والنفوذ الفرنسي في أفريقيا مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ويؤكد كل منهما الآخر”.

مع الأسف، الأحداث الجيوسياسية الأخيرة لم تدفع القيادة السياسية الفرنسية إلى التصالح مع الواقع ونبذ النظرة الاستعمارية الفوقية، وإعادة تنظيم السياسة الخارجية الفرنسية بحيث لا تكون شديدة التركيز على أفريقيا. العادات الاستعمارية القديمة تعود إلى الظهور عندما يتعلق الأمر بالمصالح الفرنسية، والتي غالبًا ما تدور حول موارد الطاقة والمواد الخام.

فترة الرئيس إيمانويل ماكرون حرجة بخصوص طبيعة العلاقات مع الدول الأفريقية، رحلاته المتعددة إلى المستعمرات السابقة بمعية رجال الأعمال لم توفق في إصلاح السياسة الفرنسية تجاه هذه المنطقة، بل كان الأمر صعبًا، مما أدى إلى إحباط ليس فقط الأفارقة ولكن أيضًا الدبلوماسيين الفرنسيين البراغماتيين، ونرى نتائجها في الوقت الحاضر في النيجر التي انقلبت على القواعد القديمة، وبوركينافاسو ومالي اللتان غادرهما جنود قوة برخان الفرنسيين في 15 أغسطس 2022 بعد طردهم من قبل المجلس العسكري الذي تولى السلطة.

كان الوجود العسكري الكبير لفرنسا داخل دول غرب أفريقيا جزءًا مهمًا من فترة ما بعد الاستعمار المباشر، بالإضافة إلى الترخيص الواسع للتدخل من خلال اتفاقيات الدفاع مع ما يقرب من نصف دول أفريقيا، ساعد كل ذلك فرنسا على أن تصبح معروفة باسم “دركي أفريقيا” لعقود طويلة، مع الحفاظ على الهيمنة من خلال وجود قواعد عسكرية دائمة في السنغال وكوت ديفوار وتشاد وجيبوتي والغابون والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى، هذه الدول التي انتفضت أخيرا ضد السياسة الفرنسية وهيمنتها واختار أغلبها بناء شراكات جديدة مع المغرب الشريك الموثوق ضمن إطار تعاوني تضامني جنوب – جنوب.

تضاؤل النفوذ الفرنسي بأفريقيا حقيقة، لكن باريس تحتفظ بعدة أوراق ورهانات في نطاق العلاقات الأمنية والاقتصادية والثقافية وما يرتبط بها من روابط سياسية مع أفريقيا

استخدمت فرنسا وجودها الأمني منذ إنهاء الاستعمار لممارسة نفوذها في البلدان التي لديها فيها مصالح، لكن في السنوات الأخيرة تصاعدت مشاعر الاستياء ضد فرنسا الاستعمارية بسبب التدخلات السياسية والمسلحة والمكائد المتواصلة للخلايا الاستشارية الأفريقية داخل الرئاسة الفرنسية التي استعملت كل المبررات للحفاظ على وجود كبير لها داخل المستعمرات السابقة.

مع تضاؤل نفوذ فرنسا العالمي، كانت باريس

ترى في الحديقة الخلفية الأفريقية أفضل فرصة لها للحفاظ على نفوذ قويّ وهيمنة نسبية، لكن حتى هذه الفرصة تم التفريط فيها بسبب تجاهل تغير المعادلات الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية سواء على المستوى الأوروبي أو الأفريقي، وكانت جولة إيمانويل ماكرون السريعة التي قام بها في مارس الماضي وقادته إلى ثلاث دول في الساحل محاولة يائسة لإعادة التموقع.

سعت فرنسا للحفاظ على مصالحها من خلال التأثير على الشؤون الداخلية الأفريقية عبر شركة النفط المملوكة للدولة إلف أكيتين، واختبرت بقوة الوصاية السياسية التي انتهجتها داخل الدول الأفريقية طوال عقود من الزمن، والتي يبدو أنها انتهت من خلال الأحداث الأخيرة في عدد من دول غرب أفريقيا، ومن خلال العلاقات الشخصية والشبكات السياسية التي باتت تنسجها تلك الدول مع شركاء آخرين.

كانت فكرة فرنسا الاستعمارية إنشاء جمهوريات جديدة ذات استقلال ذاتي محدود تحت وصاية صارمة، تحتكر فيها باريس كل القرارات السيادية، وبالنسبة إلى عدد من القادة الأفارقة كانت رسائل الحكومة الفرنسية واضحة، إذا كنت تريد البقاء في السلطة، فيجب أن تكون على علاقة جيدة مع فرنسا وخاضعا لقراراتها. لكن اختلفت المعطيات الآن فكانت النتائج خلاف ما دأبت عليه سياسة فرنسا لعقود طويلة.

من المسلّم به القول بتآكل النفوذ الفرنسي في المستعمرات الأفريقية السابقة، الذي توج بالانفصال المتسارع للزعماء الأفارقة عن الوصاية الفرنسية. رأينا هذا مؤخرا في أحداث النيجر وفي العديد من المظاهرات المناهضة لسياسة باريس في دول أفريقية عديدة، وفي اللقاءات المباشرة بين الرئيس ماكرون وزعماء أفارقة منهم الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي، الذي عبّر له بكل الطرق عن

تغير البوصلة الأفريقية نحو اتجاهات أخرى ليست باريس إحداها، عندما قال له بندية “انظروا إلينا بطريقة أخرى باحترام كشريك حقيقي وليس بنظرة أبوية وإملاءات”.

السياسات التعنتية والاستعلائية لصناع السياسة الفرنسية وأسلوبهم الفج في التعاطي مع قضايا القارة الأفريقية ودولها، خصوصا المغرب.. ساهمت في تفاقم الرفض الأفريقي شعبيا ومؤسساتيا للوجود الفرنسي

تضاؤل النفوذ الفرنسي بأفريقيا حقيقة، لكن باريس تحتفظ بعدة أوراق ورهانات في نطاق العلاقات الأمنية والاقتصادية والثقافية وما يرتبط بها من روابط سياسية مع أفريقيا. ومع ذلك من الممكن إنهاء ذلك النفوذ مرة واحدة وإلى الأبد مع استمرار ساسة باريس في نهج نفس العلاقة الاستعمارية التي لا تعترف بالتغيرات الحاصلة.

لم تستطع فرنسا الماكرونية القيام بخطوة متقدمة لتغيير موقفها غير الواضح من قضية الصحراء المغربية، وهذا سبب حاسم في الأزمة المستمرة بين باريس والرباط، لكن هناك أبعاد أخرى فاقمت من الأزمة، ففرنسا لم تستوعب أن يصبح المغرب مرجعا ونموذجا لعدد من الدول الأفريقية فيما يتعلق بالدفاع عن السيادة الداخلية والتعامل بمنطق رابح – رابح في السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، وليس بمنطق باريس الاستعلائي الاستعماري.

في نهاية المطاف، الأزمة الفرنسية – المغربية صورة أخرى لفشل السياسة الفرنسية داخل دول أفريقيا منها الكاميرون والغابون والسنغال، وإخراجها من بلدان كانت إلى وقت قريب تعتبرها حديقتها الخلفية ومجال نفوذها ومناجمها التي لا تنضب. هذا يعني أن أصحاب القرار الفرنسي متخلفون عن الركب كثيرا، ليس فقط دبلوماسيا وسياسيا وأمنيا، بل واقتصاديا أيضا. نرى ذلك واضحا في رقم المعاملات التجارية والاستثمارية التي تربط المملكة بفرنسا، بعدما أصبحت الولايات المتحدة المستثمر الأجنبي الرئيسي في المغرب منذ عام 2022 متجاوزة باريس.

في دولة مثل النيجر تعاني من الكثير من المشاكل، مشاكل أمنية واقتصادية واجتماعية ومالية، لم يكن تحقيق القيم الديمقراطية أولوية الجيش الفرنسي وأجهزة المخابرات الفرنسية المتواجدة على الأرض ومن حول الرؤساء السابقين، فبعدما خرج هذا البلد عن الطوق الفرنسي على غرار دول أفريقية أخرى بقيت فرنسا وفية لرؤيتها الأمنية والاستعمارية، بأنها لا تنوي سحب ما يقرب من 1500 جندي منتشرين في هذا البلد، وهي تدعم الخيار العسكري بقوة ضد المتحكمين بالقرار السياسي بالنيجر حاليا.

السياسات التعنتية والاستعلائية لصناع السياسة الفرنسية وأسلوبهم الفج في التعاطي مع قضايا القارة الأفريقية ودولها، خصوصا المغرب الذي استطاع مد نفوذه الاقتصادي والأمني والدبلوماسي والديني داخل غرب أفريقيا، ساهمت في تفاقم الرفض الأفريقي شعبيا ومؤسساتيا للوجود الفرنسي. النفوذ الفرنسي المنحسر عن هذه المناطق هو الصدمة التي لن تستوعب نتائجها القيادة الفرنسية بقصر الإليزيه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: