ليس للمهاجرين سوى أن يمضوا في الغرق
لا يعرف المهاجرون بقوارب مطاطية الذين يغرق بعضهم على بعد مئات الأمتار من اليابسة أنهم إذا ما وصلوا إلى اليابسة الأخرى بأنهم سيلتفتون إلى الوراء إلى بلادهم التي فروا منها بحسرة من أضاع شيئا نفيسا لن يتمكن من استعادته بغض النظر عمّا تنتهي إليه أحواله في الأراضي الجديدة التي كان يأمل في أن تكون بلاده.
سيكتشف في لحظة محرجة من حياته أن لا بلاد له غير تلك البلاد التي أشبعها لعنات وكان يهجوها في أحلامه ويفرّ منها في كل لحظة يقظة. سيكون عليه أن يمخر في أحلامه جحيمها كما لو أنه الجنة التي طُرد منها. وسيقضي حياته كلها في محاولة منه لاستعادة ساعات عاشها هناك بين بشر كانوا عائلته التي سيكون عليه أن يدرك أن لا عائلة بعدها. فما من جنة على الأرض حتى لو توهّمنا ذلك.
“الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا” مقولة تُنسب إلى الامام علي يمكن أن نقرأها بطريقة مختلفة أو مقلوبة فتكون الأبدية سابقة لحياة وهمية أقبل عليها المرء ظانا بأنها ستكون حياته الحقيقية. ولأن الإنسان لا يحمل الجزء الأعظم من جذوره معه كالشجرة التي لو قطعت عن جذورها تموت فإنه سيعيش على ما تبقى من هواء. أما إذا نفد ذلك الهواء فإنه سيكون أشبه بذلك الغراب الذي قرر أن لا يكون غرابا ثم نسي مع الوقت كيف يمكن أن يعود إلى هيئته الأولى.
يتذكر من يصل إلى اليابسة الأخرى من مات في الطريق. يشفق عليه أم يغبطه؟ في الحالين لم يكن الضياع حلا. وصل إلى نهاية الطريق أم غرق في منتصفها فإن الأفق كان مسدودا. يهرب المهاجر من بلد هو ضحية مشكلاته ليكون ضحية لبلد يلقي عليه مشكلاته. دائما هناك مَن يقول “المهاجرون هم السبب”. في الجريمة والمخدرات والاتجار بالبشر والعنف يحضر شبح المهاجر.
الأفارقة وحوش تتحين الفرص للقفز إلى اليابسة الأوروبية. لا أحد من الأوربيين يسأل نفسه “ما الذي فعلناه بأفريقيا؟” كما أن سوريا ليست بعيدة. العراق قبلها وأفغانستان. في ذلك السياق بمكن القول إن الهجرة ليست جريمة
في سياق تلك اللغة فإن المهاجر هو العدو الذي يمكن أن تُلقى عليه التهم جزافا لكي يتحوّل إلى ضحية مزدوجة. ضحية النظام السياسي الذي دفعه إلى اختيار المركب الصعب، وضحية نظام اجتماعي يلاحقه بسوء فهم ليست له نهاية ولا يمكن الخروج من متاهته.
يواجه الأوروبيون مشكلة الهجرة غير الشرعية كما لو أنها ليست من صنعهم وهم الذين خرّبوا بلداناً ونهبوا ثرواتها وسحقوا كرامة شعوبها. وحين صارت تلك البلدان دولا لم تكن سوى دول ناقصة. هناك عيب وجودي لا يمكن إصلاحه. ذلك هو العار الذي يسعى الأوروبيون إلى تنظيف أيديهم من آثاره وهم يكافحون الهجرة. هجرة أبناء تلك الدول التي لم تصبح دولا إلا من أجل أن يزيد عدد أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الوصفة التي نفكر فيها لا تشمل كل الدول. فالدول بشعوبها كما يُقال. هناك دول تحرّرت من الاستعمار وفي الوقت نفسه حررت شعوبها من وهم التبعية. في مدن العالم الرئيسة لا بد أن يجد المرء في مراكزها حيا صينيا لا يرتاده الصينيون وحدهم. إنه مرفق سياحي يزوره الناس حتى وإن لم يستفيدوا من خدماته. هذا شعب حي لا يعاني من سوء فهم، لا مع نفسه ولا مع الآخرين.
كوريّو نيويورك لهم شارع يحمل اسم بلادهم. هناك تجد مطاعمهم مكتظة بزبائن من جنسيات مختلفة. فهي مناسبة للتعرف على تاريخ مطبخ عريق. ذلك ما فعله التايلنديون الذين لا يخلو شارع من شوارع مدن العالم الكبيرة من مطعم يقدم طعامهم. ليس غريبا من يُطعم الآخرين بكرم. تلك طريقة مثالية لإنهاء مشكلات الهجرة. ولكنّ شعوبا كثيرة لم تتمكن حتى اللحظة من الانفصال عن مشكلاتها التي هربت منها لتلتحق بالعالم المعاصر وتكون جزءا منتجا منه.
تقاوم أوروبا الهجرة لأنها لا تريد أن تغرق في بحر من المهاجرين الذين لا يعملون. فهي في حاجة إلى الأيدي التي تعمل لا إلى الأفواه التي تأكل. تعبت. ذلك صحيح. غير أنها لا تشعر أنها تدفع ثمن ما فعلته. سيكون دائما هناك مهاجرون من البلدان التي تركها الاستعمار مكبلة بخططه اللصوصية التي يسكت عنها الإعلام العالمي لأنه من صنعها.
الأفارقة وحوش تتحين الفرص للقفز إلى اليابسة الأوروبية. لا أحد من الأوربيين يسأل نفسه “ما الذي فعلناه بأفريقيا؟” كما أن سوريا ليست بعيدة. العراق قبلها وأفغانستان. في ذلك السياق بمكن القول إن الهجرة ليست جريمة. الجريمة الحقيقية تكمن في ما فعله الاستعمار وما لا يزال يفعله بعد انتهاء حقبته.
يلتفت المهاجر إلى بلاده فيرى الجحيم والجنة قد امتزجا.