فرنسا تخسر آخر مستعمراتها في أفريقيا وروسيا تنمو وتتوسع
يحتدم الصراع بين روسيا والقوى الغربية، على الثروات والنفوذ في القارة الأفريقية، فيما يحزم الفرنسيون حقائبهم، قبل حلول قوات «فاغنر» الروسية محلهم. وعلى الرغم من انشغال موسكو بالحرب على أوكرانيا، حافظت على حضورها في أفريقيا، وعيونها على مناجم الذهب واليورانيوم، فضلا عن النفط والغاز. وتدلُ مؤشرات مختلفة على أن الروس يعملون في السر والعلن، على توسيع نفوذهم في القارة، من السودان شرقا إلى النيجر ومالي غربا. ومن تلك المؤشرات قمة روسيا أفريقيا الثانية التي اختتمت أعمالها في بطرسبورغ الجمعة الماضي. وعلى إثرها انطلقت نائبة وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نولاند، في جولة أفريقية شملت ثلاث دول هي أفريقيا الجنوبية وساحل العاج وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ولئن كانت اجتماعاتها مع كبار المسؤولين في أفريقيا الجنوبية ارتدت طابعا اقتصاديا متصلا بملف الطاقة، فإن ظلال روسيا كانت حاضرة في المحطتين الأخريين، إذ تعلقت الملفات بقضايا السلام والأمن الإقليميين، والتعاون الاقتصادي والمساعدات الإنسانية والانتخابات الحرة ودعم الحكم الديمقراطي، حسب بيان للخارجية الأمريكية. كما أن زيارتها لجوهانسبورغ أتت قبل أقل من شهر من قمة مجموعة «بريكس» التي تستضيفها أفريقيا الجنوبية، والتي تشكل روسيا أحد أعضائها المؤسسين.
روسيا وإيطاليا
وفي خط مُواز تسعى موسكو إلى تحسين صورتها في العالم، التي تلطخت بفعل حربها المدمرة على أوكرانيا، وهو الهدف الرئيس من دعوتها إلى القمة الروسية الأفريقية في سان بطرسبورغ، والتي لبتها خمسون دولة أفريقية، وحضرها 17 زعيما من زعماء القارة. وحسب مسؤولين روس فإن هذه القمة الثانية كانت أنجح من الأولى، التي استضافها الرئيس فلاديمير بوتين في منتجع سوشي العام 2019. وسعت موسكو في القمتين إلى تبني بعض المشاريع التنموية الكبرى في البلدان الأفريقية القريبة منها سياسيا، على غرار التعهد بإنشاء مفاعل الضبعة لإنتاج الطاقة النووية السلمية في مصر، بقيمة 35 مليار دولار.
على أن الغياب الفرنسي عن القمة الروسية الأفريقية الثانية دلل على عمق التباعد بين موسكو وباريس، وتعطُل الحوار بينهما، لاسيما بعد انقلاب النيجر، الذي قوض آخر معاقل النفوذ الفرنسي في القارة. والأرجح أن قائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني «اشتغل» على الإعداد لحركته طيلة أشهر، بالتنسيق مع الروس. والظاهر أنه كان يعلم سلفا باعتزام الرئيس المخلوع محمد بازوم عزله من منصبه، فأراد أن يتغدى به قبل أن يتعشاه. ومن مؤشرات التمدد الروسي أيضا الشعارات والرايات الروسية التي رفعها «المتظاهرون» في العاصمة نيامي، وقبل ذلك في عواصم أفريقية عدة، سواء منها تلك المؤيدة للروس، وإن على استحياء، أو الشعارات المناهضة لفرنسا أمام سفارتها في العاصمة النيجرية.
ومن المؤشرات البارزة كذلك تسمية خبير مُطلع على الشؤون الأفريقية، وهو أيدار رشيدوفيتش أغانين، سفيرا جديدا لدى ليبيا، بعد غياب استمر سنوات. وأكد تقرير حديث صادر عن «معهد الدراسات السياسية الدولية» الإيطالي أن موسكو تحتفظ بأكثر من عشرة آلاف مقاتل بين سوريا والقارة الأفريقية. وأوضح التقرير أن الروس ينشطون أساسا في مالي والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى شرق ليبيا، حيث يدعمون القوات التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وأكد التقرير الإيطالي وجود المجموعة شبه العسكرية «فاغنر» في ليبيا منذ خمس سنوات على الأقل، حيث شهدت البلاد حضورا قويا لعناصرها المسلحة.
خريطة «فاغنر»
وكشفت تقارير اطلعت عليها صحيفة «لوموند» الفرنسية حول خريطة انتشار قوات «فاغنر» نفس المعلومات، مؤكدة أن نشاط تلك القوات الروسية «الخاصة» يشمل حاليا كلا من أفريقيا الوسطى والموزمبيق وليبيا، بينما ركزوا وجودهم في مالي على المناطق المنتجة للذهب. وساهم الانسحاب الفرنسي الاستراتيجي من منطقة الساحل والصحراء، منذ عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند، في تشجيع روسيا على ملء الفراغ. ولم يتحرج نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الرئاسي الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف من التصريح لإحدى وكالات الأنباء بأن غاية روسيا اليوم هي «استعادة الوجود الذي كان لها قبل تفكك الاتحاد السوفييتي». وفي خط مواز قررت روسيا استئناف عمليات قنصليتها العامة في بنغازي، كما زار أخيرا فريق فني روسي طرابلس لدرس الخطوات العملية لمعاودة فتح مكاتب السفارة في طرابلس.
وأفادت تقارير غربية أن مقاتلي «فاغنر» الروس انتشروا في مالي، في أعقاب انقلابين متواليين، ما أثار حفيظة قوى كبرى غربية، بينها ألمانيا وبريطانيا وكندا وفرنسا. واتفقت تلك الدول مع بلدان أخرى غربية على تشكيل قوات خاصة أطلقت عليها اسم «تاكوبا» وهي ترمي لمرافقة الجيش المالي في حربه على الجماعات المسلحة.
سجن الرئيس المنتخب
أما في النيجر فيبدو أن الأمور ستستتبُ للجنرال الانقلابي، مع تدرج الأوضاع نحو الهدوء، وهو الوضع الأمثل للروس. وطالما أن تشاني بات يمسك السلطات في قبضته ويسجن الرئيس الشرعي محمد بازوم، فمن السذاجة الاعتقاد أنه سيتنازل عن الحكم بسهولة ويُسلمه ببراءة الصبيان، بالرغم من مساعي الوساطة التي يبذلها قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس». وكان واضحا أن الطغمة العسكرية تستهين بالقرارات التي اتخذها الرؤساء في قمتهم بالعاصمة النيجيرية أبوجا. ويدل هذا الموقف على أن القائمين بالانقلاب يستندون على قوة دولية أو إقليمية أكبر من «إيكواس» والواضح أن روسيا هي تلك القوة. واستطرادا لجأ الانقلابيون إلى إجراءات «عقابية» ضد فرنسا، أبرزها قطع بث برامج قناة فرنسا24 التليفزيونية ومحطة «فرانس أنتير» الإذاعية الفرنسيتين، بالإضافة إلى إلغاء جميع الاتفاقات العسكرية المُبرمة مع باريس.
وسبق أن استولى قادة جيش مالي، المجاور للنيجر، على السلطة في انقلاب عسكري العام 2020 لكن لم تستطع الدول الأفريقية أن تفعل شيئا لإفشال الانقلاب. وتذرع الانقلابيون في مالي، كما في النيجر وبوركينا فاسو وغيرها، بإعادة الأمن والسلم ومحاربة الجماعات الإرهابية، ولم يُحققوا شيئا من ذلك. من هنا فإن الصراع في جوهره يدور بين القوى الكبرى، بواسطة أدوات محلية. لا بل إن الأوضاع الأمنية المتدهورة أدت إلى تدفق موجات متوالية من اللاجئين والمهاجرين من البلدان التي تشهد صراعا أهليا إلى دول الجوار في مرحلة أولى ثم نحو بلدان الساحل المتوسطي تونس وليبيا ومصر، يحدوهم الأمل أن تكون هذه البلدان جسر عبور إلى أوروبا.
وأحدث عدم الاستقرار في المنطقة أزمة هجرة، تُعتبر من أسوأ ما عرفت المنطقتان الصحراوية والمتوسطية، منذ فترة الاستقلالات. وتعاطت السلطات التونسية بقلة حرفية مع موجات الهجرة غير النظامية، فهي لم تُراع الجوانب الإنسانية لأولئك المهاجرين، ونقلت بعضا منهم بواسطة حافلات إلى الحدود التونسية الليبية، لكن السلطات الليبية رفضت استقبالهم وتحمُل ذلك العبء الاجتماعي. مع ذلك استطاعت الحكومة التونسية الانتقالية في 2011 استيعاب مليون لاجئ سواء من المواطنين الليبيين أم من العاملين العرب والأجانب في ليبيا.
خطة ماتيي
في المقابل تسعى إيطاليا إلى تعزيز علاقاتها مع البلدان الأفريقية، في إطار المشروع الذي طرحته رئيسة الوزراء اليمينية المتشددة جورجيا ميلوني، على بلدان منطقة الساحل والصحراء المُصدرة للمهاجرين، وبلدان شمال أفريقيا المستقبلة للمهاجرين، في إطار «شراكة تنموية». وأطلقت ميلوني على هذه الخطة، التي عرضتها أخيرا في روما على قمة إقليمية، اسم الزعيم الإيطالي الراحل أنريكو ماتيي مؤسس مجموعة «إيني» النفطية، والعدو اللدود للمجموعات النفطية الأمريكية. غير أن النخب في المنطقتين المغاربية والصحراوية غير متحمسة للمشروع الإيطالي، بالرغم من وعود روما بمنح مساعدات للدول التي تجتهد في اعتراض سفن المهاجرين غير النظاميين، أو تُؤويهم عندها في معسكرات خاصة. وترددت على ألسنة متظاهرين تونسيين في الفترة الأخيرة شعارات تؤكد أن قواتهم البحرية لن تكون حرسا للسواحل الإيطالية وأن بلدهم لن يكون مركز تجميع للاجئين والمهاجرين غير النظاميين.
ولا يُخفي صناع القرار الغربيون قلقهم من توسُع الحضور الروسي في أفريقيا، ورأوا في المشاريع الأخيرة، ذات الطابع العسكري، التي أقامتها روسيا في مالي، مصدر تهديد لمصالح تلك الدول، لأنها تمكن من نقل المزيد من القوات الروسية إلى المنطقة. لا بل إن فرنسا اعتبرت تلك المشروعات خطا أحمر، فيما جدد خمسة عشر بلدا غربيا، في بيان مشترك، التزامها بالمُضي قُدما في الحرب على الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء من أجل إعادة الأمن والاستقرار إليها، على الأمد الطويل وحماية السكان المدنيين. في هذا السياق شوهدت أخيرا حركة مكثفة في مطار العاصمة المالية باماكو، وهي عملية قادها الروس من موسكو، فيما تولى عناصر «فاغنر» المتابعة المحلية للعملية.
بين «القاعدة» و«فاغنر»
في هذا المشهد المُعقد ستجد عناصر «فاغنر» نفسها، إن آجلا أم عاجلا، في مواجهة مع الجماعات الإرهابية، وخاصة تنظيم «القاعدة» المتحالفة مع شبكات تهريب الأسلحة وتُجار المخدرات. وكان التنظيم يسيطر على شمال مالي منذ العام 2012 ثم تحرك نحو وسط البلاد، ومن ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورين.
ومن المفترض أن إعادة نشر القوات الفرنسية في غرب أفريقيا، التي أعلن عنها الرئيس ماكرون في 2021 ستنتهي هذه السنة بخفض عدد القوات من 5100 إلى 2500-3000 جندي. وفي الوقت نفسه اضطرت القيادة العسكرية الفرنسية، بعد ثماني سنوات من الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، إلى التقليص من حجم «عملية برخان» بسبب الخسائر البشرية التي تكبدتها، في صراعها مع الجماعات الإرهابية. وتقول مصادر غربية إن «فاغنر» أرسلت عنصرا تابعا لها، اسمه سيرغاي، إلى مالي تنحصر مهمته في التفتيش عن المناطق التي توجد فيها احتياطات كبيرة من الذهب. والأرجح أن الصراع على مناجم الذهب وعلى النفط سيكون محور الصراع الآتي بين فرنسا من جهة، وروسيا التي دخلت إلى الفناء الخلفي للساحل والصحراء، من جهة ثانية، وهي تعتزم البقاء فيه، مهما كلفها الثمن.
وشكلت زيارة وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب إلى موسكو ومحادثاته مع نظيره الروسي سيرغاي لافروف، فرصة ليؤكد الطرفان «استمرار الشراكة العسكرية» بينهما، بحجة أن المخاطر الإرهابية زادت في أعقاب الانسحاب الفرنسي من المنطقة، لاسيما أن باريس أغلقت ثلاث قواعد عسكرية من أصل خمس في شمال مالي.
مقاومة مرتعشة
تبدو المقاومة الأوروبية لزحف عناصر «فاغنر» الروس، في أرجاء القارة الأفريقية، ضعيفة ومرتعشة، إذ اكتفى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بإقرار عقوبات في حق ثمانية عناصر من الشركة، بينها حرمانهم من التأشيرات. كما أعلنت أوروبا تعليق مهمة تدريب قوات أفريقيا الوسطى، بسبب الرقابة التي باتت تمارسها عناصر «فاغنر» على الجنود المحليين. ومن ضمن المستهدفين بالعقوبات، الاسكندر كوزنتسوف، الذي جُرح في أيلول/سبتمبر 2019 في ليبيا، وهو يُقاتل إلى جانب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر للدخول إلى طرابلس. وطبقا لمعلومات مصادر مطلعة ما زال ألفٌ إلى ثلاثة آلاف من عناصر الشركة الروسية «الخاصة» منتشرين في ليبيا. كما أُفيد أن قائد قوات «فاغنر» هو ضابط المخابرات العسكرية السابق دميتري أوتكين.
ويرى الخبير المتخصص في منطقة الساحل والصحراء رولان مرشال أن الاعتراف الروسي الرسمي بمجموعة «فاغنر» غير ممكن لأن القانون الروسي يحظر المرتزقة ويُعاقب على الارتزاق، وهذا يعني أن «فاغنر» غير موجودة رسميا في منطق القانون. ربما هذا ما جعل رئيس الوزراء المالي ورئيس جمهورية أفريقيا الوسطى يزعمان أنهما لم يسبق أن سمعا بـ«فاغنر». ولفت الإعلامي بنجامين كينال إلى أن المناطق التي تتدخل فيها مجموعة «فاغنر» هي البلدان التي تبدو روسيا غائبة منها رسميا أو ضعيفة الحضور. والأهم من ذلك أن موسكو تستطيع التنصل من المسؤولية، بإلقاء العبء على طرف يُعتبر قانونيا مُنفصلا عن الدولة.
قُصارى القول إن الصراع على النفوذ أدى إلى تجاذبات حادة بين فرنسا وروسيا، ستكون إحدى نتائجها نهاية سياسة فرنسا/أفريقيا، التي أرساها الرئيس الفرنسي شارل ديغول، مطلع ستينات القرن الماضي، ومنح بموجبها استقلالا شكليا للمستعمرات الفرنسية السابقة. وما انفكت قطع الدومينو تسقط واحدة بعد الأخرى طيلة العقود الماضية، وآخر حبة في العنقود، على ما يبدو، هي النيجر.