المغرب والجزائر في معادلة التسامح والضغينة

الصراف

صحيح أن المغرب نجا هذه المرة من الاتهام بأنه هو الذي يقف وراء حرائق الغابات في الجزائر، كما لم يُتهم بأنه هو المسؤول عن التغير المناخي الذي يرفع درجات الحرارة في شمال أفريقيا، إلا أن الضغائن ظلت ضغائن. ذلك أن النخبة العسكرية الحاكمة في هذا البلد لا تجد مبررا لوجودها إن لم تتخذ من المغرب عدوّا يُلقى على عاتقه كل ما يحيق بالجزائر من المصاعب والمصائب.

المغرب، كما دل خطاب عيد العرش الذي ألقاه العاهل المغربي الملك محمد السادس، يضع ثقله على مقاربة مختلفة، تدفع إلى التسامح وتميل إلى مد يد العون والحرص على التآخي، ونبذ الخلافات.

قال الملك محمد السادس إن “العلاقات بين البلدين مستقرة”. نظر إلى الجزء الملآن من الكأس. وتعمد ألا ينظر إلى الجزء الفارغ. وهي “مستقرة” ربما لمجرد أن الجزائر لم تضف اتهامات جديدة على اتهاماتها السابقة، وربما لأن الضغائن، هي بطبيعتها مثل بالون هواء كلما انتفخ، عاد من بعد التنفيس لينكمش على نفسه.

المقاربة المغربية للعلاقات مع الجزائر قد تنظر إلى ما تعنيه الجيرة من مصالح ومنافع متبادلة، كما قد تنظر إلى حقيقة أن المسافة بين الشعبين الجزائري والمغربي جد ضئيلة وجد هامشية، إلى درجة أنها لا تتحمل الضغائن، إلا أنها مقاربة أخلاقية أيضا. بسيطة إلى درجة أنها عندما تخاطب الخير في الآخر، فإنها تحرك دوافع الخير. وحتى إن لم تنجح، فإنها تكبح دوافع الشر على الأقل. وهذا ما حصل عندما لم تعد حرائق الغابات في الجزائر “مؤامرة مغربية”.

ضغائن إيران لم تَعِدْهَا إلا بالخسران والضرر في مواجهة منطقة تنعم بالازدهار والغنى وتلاحق أسباب التقدم. فإذا قلت إنه ثراء النفط، فالجزائر، مثل إيران، لا ينقصها النفط، ولكن ينقصها الرشد

النفس البشرية نفسان، لا واحدة. ومن قوله تعالى “وهديناه النجدين”، تعرف أنهما نجدان. نجد للخير وآخر للشر. فإذا خاطبت الأول أفلحت في أن تستحثه على الرد بالمثل. وإذا خاطبت الثاني دفعته إلى المزيد.

وما من مناسبة مرت خلال الأعوام الماضية إلا وسعى خلالها العاهل المغربي أن يخاطب جانب الخير في القيادات الجزائرية. لم يفتّ عضده أن تلك القيادات ظلت لا تستجيب، ككل من تأخذه العزة بالإثم، ولكنه كان يرى أن بضاعة الضغينة تخسر. وأهم مَنْ تخسر تلك البضاعة أمامه هو الشعب الجزائري.

الجزائريون، حتى وإن حاولت الطغمة الحاكمة أن تصور لهم ما تصور عن عداء المغرب ومؤامراته، باتوا يعرفون أن تلك البضاعة تفسد أمام الدعوات الدؤوبة التي ظل يُطلقها الملك محمد السادس لإصلاح ذات البين بين الأخوة.

هم يعرفون أن تلك الدعوات تلتمس إثبات الحقيقة البسيطة الوحيدة المنطقية، وهي أن مصالح الشعبين المشتركة أكبر من أن تقع ضحية لافتراضات “مؤامراتية” هزيلة.

هم يعرفون أيضا أن الضغينة تتآمر على نفسها وعليهم. وتحاول أن تتآمر على المنطق السليم. ولكن الذين لا يجدون بضاعة أخرى يسألون أنفسهم: وما العمل من دونها؟ وكيف تستمر المؤامرة ضد الإصلاحات السياسية والاقتصادية ما لم يكن هناك عدو خارجي ننشغل ونشغل الناس به؟

الجزائريون الذين خرجت ملايينهم للتظاهر من أجل الإصلاحات يعرفون طبيعة النخبة التي تحكمهم، فلا يشترون منها ما تزعم عن المغرب.

والملك محمد السادس إنما ظل يخاطب بدعواته للمصالحة منطق الخير في نفوس أهله بين الجزائريين. وما من سبيل للخسارة في هذا المقصد. هذا هو سبب الدأب.

الخاسرون الوحيدون هم الذين تزداد بضاعتهم إفلاسا.

معايير الخير تنجح. لأنها تستحث على فعله. بينما يختار أهل الشر، بجهلهم، ما يعتقدونه سهلا.

والمغرب لا يطلق النار على جزائريين، مثلما تفعل الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر عندما تسلح بوليساريو لكي تقتل المغاربة برصاص جزائري.

الجزائريون، حتى وإن حاولت الطغمة الحاكمة أن تصور لهم ما تصور عن عداء المغرب ومؤامراته، باتوا يعرفون أن تلك البضاعة تفسد أمام الدعوات الدؤوبة التي ظل يُطلقها الملك محمد السادس لإصلاح ذات البين بين الأخوة

والمغرب لا يأخذ شبرا من أراضي الجزائر مثلما تطمح الجزائر إلى أن توجد لها معبرا إلى الأطلسي بأخذ أراض من المغرب.

ضيق الأفق هو ما يصنع معظم الشر. ففي حين أن التعاون بين بلدين جارين وشعبين أخوين يمكنه أن يثمر الكثير لهما معا، ويغنيهما عن إلحاق الأذى بأحدهما الآخر، فإن ضيق الأفق يتخذ من صناعة الضغينة أداة لتحفيز ذلك الأذى.

ثلاثون عاما مرت منذ أن قررت الجزائر إغلاق الحدود مع المغرب. ومرت سنوات عدة أخرى منذ أن انقطعت كل الأواصر والصلات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين.

وظل المغرب يخاطب دوافع الخير. يعرف المغرب أنها هي الغالب. وظل العاهل المغربي، بحكمة راسخة، وأخلاق ملكية رفيعة، يدعو إلى استئناف العلاقات الأخوية ويوجه الدعوة تلو الأخرى من أجل تجديد التواصل بين القيادتين.

وهل توجد خلافات أو مشاكل بين المغرب والجزائر؟ نعم. ولكن هل مشاكل الإمارات أو السعودية مع إيران أقل أو أخف. أبدا. لأنها، كما تبدّت في الكثير من الأحيان، تهديد أمني صارخ ومباشر. هذا فضلا عن أن إيران تحتل، كما ترى، أربع عواصم عربية. ولكن فلسفة الخير التي وقفت وراء إستراتيجية “تصفير المشاكل” اختارت أن تأخذ الطريق الآخر. لا خوفا، بل عطفا وشفقة على بلد يبلغ سكانه نحو 80 مليون نسمة وظل ينحدر في مقومات حياته من سيء إلى أسوأ، بسبب خيارات الحقد الأيديولوجي والضغينة الطائفية.

تستمرئ الجزائر أن تضع السكين في خاصرة المغرب. ولكن من أجل ماذا؟ ابحث، ولن تجد إلا الضغينة، التي ظل المغرب يواجهها بالتسامح، وبالحرص على الأخذ بالخير وأخلاقياته.

عندما يقول العاهل المغربي “نؤكد مرة أخرى، لإخواننا الجزائريين، قيادة وشعبا، أن المغرب لن يكون أبدا مصدر أيّ شر أو سوء”، فماذا تريد أكثر من هذا تعهدا والتزاما؟ وإذا كانت هناك خلافات، فماذا تريد أكثر من هذا استعدادا لجعلها تمضي في مسار يتبنّى فلسفة الخير لـ”تصفير المشاكل”؟

وإلى أين يمكن للضغائن أن تمضي؟

ضغائن إيران لم تَعِدْهَا إلا بالخسران والضرر في مواجهة منطقة تنعم بالازدهار والغنى وتلاحق أسباب التقدم. فإذا قلت إنه ثراء النفط، فالجزائر، مثل إيران، لا ينقصها النفط، ولكن ينقصها الرشد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: