من يزور المغرب هذه الأيام، يدرك قيمة الاحتفال بعيد وطني كبير كعيد العرش في ذكراه الرابعة والعشرين، الذي يصادف الثلاثين من يوليو من كل عام، لاسيما وأن المملكة تعيش عهدها السعيد والثري بالمنجز الحضاري الكبير، في ظل القيادة الحكيمة والإدارة المباشرة للعاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي أكد في خطابه للشعب على جملة من الثوابت والقيم السامية والنبيلة، منها أن المغاربة معروفون بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة، ومعروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل.
واليوم وقد وصل المسار التنموي للمملكة إلى درجة من التقدم والنضج، فإن المغاربة في حاجة إلى هذه الجدية، للارتقاء بها إلى مرحلة جديدة، وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى، التي يستحقها المغاربة، وفق ما ورد في الخطاب الملكي. خصوصا وأن ما دعا إليه الملك، ليس شعارا فارغا، أو مجرد قيمة صورية، وإنما هو مفهوم متكامل، يشمل مجموعة من المبادئ العملية والقيم الإنسانية و”كلما كانت الجدية حافزنا” كما قال الملك محمد السادس “كلما نجحنا في تجاوز الصعوبات، ورفع التحديات”.
تميز خطاب العرش هذا العام بالتأكيد على قدرة الشباب المغربي على إبهار العالم بإنجازات كبيرة وغير مسبوقة متى توفرت له الظروف، وتسلح بالجد وبروح الوطنية، كتلك التي حققها المنتخب الوطني في كأس العالم، وهو ما جعل المملكة تبادر بتقديم ملف ترشيح مشترك، مع إسبانيا والبرتغال، لاحتضان نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2030، وذلك من خلال ترشيح غير مسبوق، يجمع بين قارتين وحضارتين، أفريقيا وأوروبا، ويوحد ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ويحمل طموحات وتطلعات شعوب المنطقة، للمزيد من التعاون والتواصل والتفاهم.
◙ الخطاب الملكي أبرز حرص المملكة على إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة خاصة دول الجوار مجددا التأكيد للجزائريين قيادة وشعبا أن المغرب لن يكون أبدا مصدر أي شر أو سوء
بفضل الجدية والإصرار والرغبة في الانتصار، تمكن المنتخب المغربي من تحقيق إنجاز غير مسبوق في كأس العالم قطر 2022، وهو حصول أسود الأطلس على المركز الرابع وتقديم بطولة تاريخية هي الأفضل في تاريخ العرب وأفريقيا على مدار 92 عاما، ونجاحهم في تكريس جذوة التميز وفي إنعاش روح الانتماء إلى ثقافة عريقة وحضارة خالدة وإلى عصر محمد السادس، كما يطلق عليه التواقون للنجاح والمتوهجون بشعلة الطموح.
أشاد الملك محمد السادس كذلك بإنتاج أول سيارة مغربية محلية الصنع، بكفاءات وطنية وتمويل مغربي، وكذلك تقديم أول نموذج لسيارة تعمل بالهيدروجين، قام بتطويرها شاب مغربي. وهي مشاريع تؤكد النبوغ المغربي والثقة في طاقات وقدرات الشباب المغربي وتشجعه على المزيد من الاجتهاد والابتكار، وتعزز علامة “صنع في المغرب” وتقوي مكانة المملكة كوجهة للاستثمار المنتج، وفق نص الخطاب الملكي. وقد جاءت تلك المنجزات العلمية لتؤكد قدرة المغاربة على مسابقة الزمن بالتأثير في حركته وحيثياته سواء في العلوم والاختراعات أو في الآداب والفنون والرياضة، والتي تستند جميعا إلى أصالة الهوية الوطنية في امتدادها النضالي المستمر وجدية الموقف والقرار والعمل اليومي عندما يتعلق الأمر بقضية الوحدة الترابية.
وقد تحدث الملك مؤكدا أن “هذه الجدية والمشروعية هي التي أثمرت توالي الاعترافات بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وآخرها اعتراف دولة إسرائيل، وفتح القنصليات بالعيون والداخلة، وتزايد الدعم لمبادرة الحكم الذاتي”، مردفا أنه “وبنفس الجدية والحزم، نؤكد موقف المغرب الراسخ، بخصوص عدالة القضية الفلسطينية، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، بما يضمن الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة”.
وشدد العاهل المغربي على أن الجدية يجب أن تظل مذهب الدولة والمجتمع في الحياة والعمل، وأن تشمل جميع المجالات ومنها: الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية، من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة. وفي المجال الاجتماعي، وخاصة قطاعات الصحة والتعليم والشغل والسكن. والجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص.
ولاشك أن هذا الموقف الملكي الواضح يفسح المجال واسعا أمام الباحثين والمحللين والمتابعين للشأن المغربي، ليدركوا مجريات الأحداث والنتائج الإيجابية التي باتت تتحقق بشكل يومي على مختلف الأصعدة سواء منها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، في سياقات إعادة البناء التي يتزعمها الملك محمد السادس برؤية تقدمية منفتحة على التحولات الجوهرية للعالم والبشرية جمعاء. ومنها تلك المتصلة بالتطور العلمي والثورة الاتصالية والتغيرات المناخية والذكاء الاصطناعي والتجاذبات الدولية.
وكانت إشارة الملك محمد السادس واضحة حول التعددية القطبية وتقاسم مراكز النفوذ “في ظل ما يعرفه العالم، من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل العديد من الأزمات، فإننا في أشد الحاجة إلى التشبث بالجدية، بمعناها المغربي الأصيل: أولا، في التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك. ثانيا، في التشبث بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد. ثالثا، في صيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك. رابعا، في مواصلة مسارنا التنموي، من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية”.
◙ اليوم وقد وصل المسار التنموي للمملكة إلى درجة من التقدم والنضج، فإن المغاربة في حاجة إلى الجدية، للارتقاء بها إلى مرحلة جديدة، وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى، التي يستحقونها
وجميعها ثوابت عميقة ونقاط جوهرية من صلب البنية الثقافية والحضارية والإنسانية للشخصية المغربية، التي حافظت دائما على خصوصيتها وهويتها وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ والجغرافيا، والعلاقة الوطيدة بالعرش العلوي العريق في جديته الموصولة بحكمته وحدبه على شعبه وتفاعله الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وانسجامه التلقائي مع الثراء الثقافي والحضاري والاجتماعي لأبناء وطنه.
وقد أوضح الخطاب الملكي أن السعي اليومي للقيادة الحكيمة لا يقتصر فقط على القضايا الداخلية، وإنما يحرص على إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة، وخاصة دول الجوار، مجددا التأكيد للأشقاء الجزائريين، قيادة وشعبا، أن المغرب لن يكون أبدا مصدر أي شر أو سوء، وكذلك الأهمية البالغة، التي يوليها الملك لروابط المحبة والصداقة، والتبادل والتواصل بين الشعبين الجارين الشقيقين.
لقد كانت المملكة دائما ولا تزال صوت الحكمة الذي يرتفع عاليا من أجل السلام والوئام والأمن والاستقرار. وتميزت رؤية الملك محمد السادس على الدوام بالوضوح والنقاء والقدرة على استباق العصر ورفع التحديات وتجاوز العراقيل بجدية الموقف وصلابة القرار في سياق التنوير الفكري والجدية العملية والشجاعة السياسية وتحت راية الإصلاح كجهد يومي متواصل يقوده الملك محمد السادس.
إن الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لعيد العرش المجيد، يمثل ترجمة واضحة للعلاقة الوثيقة بين الملك والشعب، وعنوانا بارزا للمملكة في عصرها الحالي الذي يتميز بالسير الحثيث نحو مصاف الدول المتقدمة، وبالدور الإستراتيجي الكبير للمملكة في محيطها العربي والإسلامي والأفريقي والمتوسطي كدولة تتحرك باستمرار في اتجاه اليقين بأن الغد سيكون لها نصرا مبينا وفتحا عظيما ومكاسب بغير حدود.