الجزائر تتحاشى المزيد من استفزاز واشنطن

لفت غياب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن القمة الروسية – الأفريقية انتباه العديد من المتابعين بالنظر إلى العلاقة المتينة التي تجمع الجزائر بموسكو، ويعتقد أن هذا الغياب مرتبط بحرص الجزائر على تحاشي القيام بالمزيد من الخطوات التي من شأنها أن تستفز المحور الغربي.

غاب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن القمة الروسية – الأفريقية، حيث مثّله رئيس الوزراء أيمن بن عبدالرحمن وسط تساؤلات عن دوافع هذا الغياب، خاصة وأن تبون تلقى دعوة مكتوبة وأخرى شفهية من طرف موسكو لحضورها.

ويرى مراقبون أن وجود مسؤولة أميركية في العاصمة الجزائرية للتحضير لزيارة وزير الخارجية أحمد عطاف إلى واشنطن قد يكون خلف هذا الغياب، وهو ما يوحي بحجم الثقل الذي تواجهه الجزائر في تحقيق توازن صعب بينها وبين قطبي الشرق والغرب.

وحضر 17 رئيس دولة أفريقية من بين 49 دولة وجهت لها روسيا الدعوة لحضور قمة سانت بطرسبرغ من أجل بعث شراكات متجددة وتعاون متعدد. وقد تم خلال هذه القمة التي جذبت أنظار العالم إليها التوقيع على اتفاقات للتعاون العسكري بين روسيا وأربعين دولة أفريقية. وتسعى روسيا لتعزيز حضورها في الساحة الأفريقية، الأمر الذي ينظر إليه الغرب على أنه تهديد جدي وجب احتواؤه.

ومنذ شهر ونصف أدى الرئيس الجزائري زيارة رسمية إلى موسكو استمرت لثلاثة أيام، وأوحت بأن عهدا جديدا فتح بين البلدين ليكرس العلاقات التاريخية والإستراتيجية بينهما، خاصة وأنها أبانت عن نوايا جزائرية في تعميق خيارها الشرقي، والانخراط في لعبة التعددية القطبية التي يسعى الروس والصينيون لإرسائها في العالم.

◙ الخطى الحثيثة والعلنية التي قطعتها الجزائر في الآونة الأخيرة تجاه موسكو وبكين عمقت من منسوب القلق الأميركي

غير أن تفادي الرئيس تبون العودة إلى موسكو في القمة التي اختتمت الجمعة، بالموازاة مع الزيارة التي أدتها مساعدة كاتب الدولة للشؤون الخارجية الأميركي المكلفة بشؤون المنظمات الدولية ميشيل سيسون لبحث ملفات الحوار السياسي الإستراتيجي بين البلدين، وتحضير زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الجزائري إلى واشنطن تلبية لدعوة من نظيره الأميركي، يوحي بأن الجزائر لا تريد إثارة المزيد من القلق الأميركي بخطوة جديدة للتقارب مع روسيا.

ولا تتوانى القيادة السياسية في الجزائر عن الحديث عن مواقفها وتوجهاتها الإستراتيجية، خاصة بعد الجولة المكوكية التي قادت تبون خلال الأسابيع الأخيرة إلى عدة عواصم، وعلى رأسها موسكو وبكين، رغم أنها تدرك حتمية شراكتها مع الأوروبيين والأميركيين.

ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية وجدت الجزائر نفسها بين كماشتي طرفي الصراع، فالروس يوظفون سوقهم التسليحية لإغراء الجزائر بالمزيد من العقود، والعمل على ترسيخ تحالف مع قوة إقليمية من خارج المنطقة، والغرب يضغط من أجل ضمان المزيد من الغاز للتخفيف من وطأة الاستغناء على الغاز الروسي.

ويرى مراقبون بأن قاعدة “السلاح للروس، والطاقة للغرب” التي تنتهجها الجزائر لتحقيق توازن في علاقاتها مع القطبين القويين لا يمكن أن تفي بالغرض في ظل اشتداد القبضة الحديدية بين الطرفين، وتحول الأزمة الأوكرانية إلى ساحة صراع وجودي بينهما.

وتشكل الخطى الحثيثة والعلنية التي قطعتها الجزائر في الآونة الأخيرة تجاه موسكو وبكين، من خلال حرصها الشديد على مساعدتها للانخراط في مجموعة “بريكس”، والخطاب الذي ردده الرئيس تبون حول “حاجة العالم إلى أقطاب متعددة”، ودعوته إلى “بلورة خيارات اقتصادية ومالية جديدة تنهي هيمنة اليورو والدولار”، قد عمقت القلق الأميركي ولا يستبعد تلويح واشنطن ببعض أوراق الضغط ما أفضى إلى عدم حضور الرئيس تبون قمة سانت بطرسبرغ.

وترتبط الجزائر بتعاون تاريخي وثيق مع روسيا في مجال التسليح، حيث أبرمت في السنوات الأخيرة صفقات وصفت بـ”الضخمة”، لكن في المقابل تعتمد على تعاون كبير في مجال الطاقة مع كبرى الشركات الأوروبية والأميركية، الأمر الذي كرس سياسة توزيع المغانم على الشركاء من أجل ضمان توازن إستراتيجي يبدو أنه بات من الصعب الاستمرار فيه.

وتلقى الرئيس الجزائري دعوة رسمية خلال شهر مارس الماضي من طرف روسيا لحضور القمة المذكورة، وأخرى شفهية من طرف الرئيس فلاديمير بوتين خلال زيارته إلى موسكو، غير أن الرجل اكتفى بإيفاد رئيس وزرائه، ربما للتفرغ إلى ترتيب الوضع مع الولايات المتحدة، وطمأنة المسؤولة التي جاءت لتحضير أجندة لم يتسرب منها شيء، لكنها تتمحور في المجمل حول الموقف الجزائري من الأزمة الأوكرانية وخلفيات التقارب المتسارع مع الروس والصينيين.

◙ قاعدة “السلاح للروس، والطاقة للغرب” التي تنتهجها الجزائر لا يمكن أن تفي بالغرض في ظل اشتداد القبضة الحديدية بين الطرفين

وقال الرئيس الجزائري في تصريح صحفي إن “الجزائر صديقة لروسيا وللصين، كما للولايات المتحدة والإيطاليين والبرتغاليين”، مستثنيا بذلك باريس ومدريد اللتين تجمعهما مع الجزائر علاقات متوترة أو مجمدة، وهي معادلة لم يعد بالإمكان تحقيقها في ظل رغبة كل طرف قطع الطريق على الآخر في مد جسور تحالفاته خارج المنطقة.

ويقابل غموض مصير طلب الانضمام إلى مجموعة بريكس في ظل عدم قدرة الرئيس الروسي على حضور قمة جنوب أفريقيا نهاية الشهر المقبل، والالتباس القائم بين الجوانب السياسية والاقتصادية في خيارات العواصم المؤثرة في المجموعة، فضلا عن تحفظ الهند والبرازيل، قاعدة التضامن الأوروبي مع أعضائه أكثر من تضامنه مع الجزائر عند القرارات المصيرية، وهو سيناريو لا يخدم رهانات الجزائر على الصداقات الشاملة مع الشرق كما مع الغرب.

وتحاول روسيا من خلال تفعيل علاقاتها مع دول القارة الأفريقية والتلويح بورقة القمح كتجارة وكمساعدات إنسانية، فك الحصار المفروض عليها من طرف الأوروبيين والأميركيين، لكن ليس بإمكانها إغراء الأفارقة بتعاون اقتصادي واستثمارات كبرى بسبب تفرغها لظروف الحرب، وهو ما يجعل القمة فرصة للتنفيس السياسي والدبلوماسي لا غير.

أما الجزائر فهي مطالبة بتقديم عرض مطمئن للولايات المتحدة، والتأكيد على بقاء مسافة أمان بينها وبين موسكو وبكين، طمأنة للأميركيين الذين لا يريدون حليفا لروسيا على بعد قصير من الضفة الجنوبية لأوروبا، وفي تخوم قارة باتت محل أطماع وصراع بين مختلف القوى، بمن فيها الروس الذين باتوا يحملون القمح في يد و”فاغنر” في اليد الأخرى.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: