المغرب يثمن تعدده الثقافي ويعيد البريق إلى تراثه اللامادي
يعتبر المغرب أرض تلاقح ثقافي وعرقي وبوتقة الحضارات العريقة، إذ يمتاز بهويته التعددية وبتراثه الثقافي اللا مادي الذي زاد إشعاعه واكتسب المزيد من الصيت على الصعيدين الوطني والدولي في السنوات الأخيرة، بفضل تضافر الجهود لصون هذا التراث وتثمينه والعناية به.
في العقدين الأخيرين تصدر المكون اللامادي للتراث الثقافي المغربي اهتمامات المغرب، إذ يغطي مجالا واسعا من الممارسات والتقاليد والتعبيرات والمعارف، فضلا عن الأدوات والأشياء والقطع الأثرية والفضاءات الثقافية المرتبطة بها. وصار هذا التراث الحي يحظى بالاهتمام المتزايد من قبل السلطات العمومية والمجتمع المدني، اللذين يكثفان جهودهما للحفاظ على تعبيراته ومظاهره وشهاداته.
ينعكس اهتمام المغرب المتزايد بتراثه، أولا وقبل كل شيء، في مصادقته على جميع اتفاقيات اليونسكو في مجال التراث، ولاسيما اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، التي دخلت حيز التنفيذ في 2006. وبعد ذلك، تم إعداد جرد ديناميكي للكنوز الثقافية غير المادية في البلاد، والتي تم اقتراح إدراج بعضها في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
وقد كان موسم طانطان أول ممارسة يتم إدراجها سنة 2008 ضمن هذه القائمة التي تضم، إلى غاية 2022، اثنتي عشرة ملكية ثقافية (11 في القائمة التمثيلية وواحدة تتطلب صونا عاجلا)، كان بعضها موضوع مقترحات مشتركة مع دول مغاربية أخرى.
وكان العنصر الأخير الذي تم إدراجه ضمن القائمة التمثيلية للأمم المتحدة هو “التبوريدة”. وإلى هذه العناصر الـ12 المسجلة، يضاف ترشيحان آخران لا يزالان بصدد التقييم، ويتعلق الأمر بكل من “الفنون والمعرفة والممارسات المرتبطة بالنقش على المعادن (الذهب والفضة والنحاس)” و”الملحون، فن شعري موسيقي شعبي”.
وفي الوقت نفسه، شهدت السنوات الأخيرة تعدد المهرجانات والفعاليات المخصصة للتراث غير المادي، مثل المهرجان الوطني للفنون الشعبية في مراكش، ومهرجان حب الملوك، وموسم حب الملوك في صفرو، وموسم طانطان، وموسم إميلشيل، إلخ.
العناية بالتراث
وعلاوة على إسهامها في تعزيز الوعي الجماعي بأهمية هذا الإرث الثقافي الذي تتميز به مناطق متعددة من المملكة، فإن هذه التظاهرات تعزز أيضا الاقتصاد المحلي، مما يبرز الدور الذي يمكن أن يضطلع به التراث غير المادي كرافعة للتنمية والنمو الاقتصاديين.
وعلى صعيد الحفاظ على التراث الثقافي الوطني غير المادي، أطلقت وزارة الشباب والثقافة والتواصل مؤخرا علامة التميز “تراث المغرب”، وهو مشروع فريد من نوعه، في حين تم إحراز تقدم كبير في مشروع تطوير العلامة والعلامات المميزة لهذه العناصر من التراث غير المادي.
وتهدف هذه المبادرات إلى “حماية هوية المملكة المغربية والمحافظة على تراثها الثقافي والذي يتعرض لعمليات سطو، عبر جميع القنوات والآليات القانونية المتاحة لليونسكو”، كما قال وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد، في افتتاح النسخة الـ16 من موسم طانطان، يوم الثامن من يوليو الماضي.
وتقديرا لالتزام المغرب الراسخ بالجهود الدولية للحفاظ على التراث العالمي غير المادي، وعمله على الحفاظ على تراثه وتعزيزه، اختارت منظمة اليونسكو مدينة الرباط لاستضافة الدورة الـ17 للجنتها الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونسكو، التي عقدت في الفترة من الثامن والعشرين من نوفمبر إلى الثالث من ديسمبر برئاسة المغرب.
وفي رسالة وجهها إلى المشاركين في هذا الاجتماع العالمي الكبير حول التراث الثقافي غير المادي، أعلن العاهل المغربي الملك محمد السادس عن إحداث مركز وطني للتراث الثقافي غير المادي، يعهد له بـ”مواصلة عمليات الجرد المنهجي للتراث الوطني في مختلف مناطق المملكة، وإنجاز قاعدة بيانات وطنية خاصة بذلك، وتنظيم تكوينات علمية وأكاديمية لتقوية قدرات الممارسين لتنفيذ تدابير الصون، وتربية الناشئة والتعريف بأهمية التراث الثقافي”.
وشدد الملك في هذه الرسالة، التي تلاها الأمين العام للحكومة محمد حجوي، على ضرورة رقمنة التراث الثقافي بكل ثرائه، وغير المادي على تنوع مكوناته، مشيرا إلى أن هذه العملية يجب أن تتم في تفاعل تام مع المستجدات التي يشهدها العالم، وفي ظل التحديات الرقمية والتكنولوجية التي يواجهها.
وتمثل حماية العديد من الثروات الثقافية غير المادية، الهشة للغاية والمهددة بالزوال، تحديا للمستقبل، كما يشير إلى ذلك أحمد سكونتي، عالم الأنثروبولوجيا والأستاذ بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط. ذلك أنه “من السهل جدا الحفاظ على شيء أو موقع أو معلمة أكثر مما يتطلب الأمر مع حرفة أو عرف أو رقصة أو أغنية”، لأن هذه التعبيرات الأخيرة “تشترك في خاصية كونها أجزاء غير متجددة، كلما اختفى جزء منها، اختفى بصفة نهائية”.
ويعتبر سكونتي في دراسة حول “التراث الثقافي غير المادي في المغرب: تعزيز وتثمين الكنوز البشرية الحية” أنه “في الوقت الذي يتواصل فيه اختفاء أجزاء كاملة من الإنتاجات غير المادية للمجتمعات وأصحابها، وفي الوقت الذي تبرز فيه إشكالية الملكية الفكرية على نطاق عالمي، فإن صون التراث الثقافي غير المادي يصبح مسألة ملحة وضرورية في نفس الوقت”.
وعلى الرغم من الوعي المتزايد بقيمة التراث غير المادي، الذي لوحظ في السنوات الأخيرة بين السياسيين وداخل المجتمع المدني، لا يزال يتوجب مواجهة العديد من التحديات في ما يتعلق بالجرد والتنظيم والتنسيق بين مختلف الفاعلين في الميدان.
وكان المجلس الأعلى للحسابات أشار، في تقريره لعام 2021، إلى عدم وجود إطار قانوني يحكم هذا المكون من التراث، وعدم وضع برنامج متعدد السنوات لمواكبته، فضلا عن عدم وجود نظام للكنوز البشرية الحية يتيح التعرف على حاملي التراث الثقافي غير المادي وضمان انتقاله إلى الأجيال القادمة.
وباعتباره خزانا للذاكرة الجماعية، والشاهد الحي على الثراء الاستثنائي للثقافة المغربية، يحتاج التراث غير المادي إلى إستراتيجية وطنية مخصصة تجمع بين صناع القرار السياسي والفاعلين الاقتصاديين والمجتمع المدني والسكان، لحمايته من الاندثار، تحت تأثير عولمة ثقافية لا تبقي ولا تذر.
هوية متعددة
اهتماما بمكانة التراث الثقافي المغربي القائم على التنوع صدر، مؤخرا، عن الجمعية المغربية للبحث التاريخي عمل جماعي موسوم بـ”التاريخ والهوية: الكتابة التاريخية بين الأرشيف والذاكرة وسؤال التعددية أعمال مهداة إلى جامع بيضا”.
ويتضمن هذا الكتاب، المهدى للمؤرخ ومدير مؤسسة أرشيف المغرب جامع بيضا، والذي جاء في 400 صفحة من القطع المتوسط، وطبع بدعم من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج، مساهمات 44 باحثا، وصديقا، وزميلا وطالبا لجامع بيضا من المغرب والخارج.
وحسب تقديم الكتاب المعنون بـ”في الحاجة إلى ثقافة الاعتراف لتطوير المعرفة”، يتعلق الأمر بمقالات كتبت بثلاث لغات (الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية) غنية بالتعليقات، والصور، والوثائق التاريخية، حيث يتفاعل “التاريخ مع الأرشيف والأدب والصحافة والمصادر في صيرورة إنتاج معرفة تضع نصب عينيها الحقيقة التاريخية”.
وأبرز منسقا هذا العمل الأكاديمي الطيب بياض وعبدالعزيز الطاهري أن “البعد التفاعلي بين المفهومين، أي المعرفة والاعتراف، هو المقصود في هذا الكتاب والفكرة المؤسسة له، وفي إطاره تهدى أعماله للأستاذ والمؤرخ جامع بيضا”.
◙ اهتمام المغرب بتراثه يؤكده إدراجه عناصر عديدة على قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو وتزايد المهرجانات التراثية
وبلغ عدد مقالات هذا العمل 43 نصا، بالإضافة إلى سيرة لجامع بيضا أعدتها لطيفة الكندوز، قسمت إلى خمسة محاور هي “الأرشيف ومصادر المؤرخ” و”التاريخ والصحافة”، و”الفترة الاستعمارية بالمغرب وما شهدته من متغيرات ومقاومات” و”الحق والهوية” و”المغرب والآخر”.
ورغم تعدد المقاربات وتنوع المواضيع التي يتناولها هذا العمل، فإن المساهمات التي تضمنها هذا الكتاب انطلقت من هدف مشترك وخيط ناظم، هو تسليط الضوء على جوانب من تاريخ المغرب لا تزال بكرا، كما تضافرت في إنتاج معرفة متكاملة الجوانب والمضامين حيث “تشكل وحدة موضوع جماعه تفاعلات التاريخ مع الذاكرة والأرشيف والصحافة والهوية”.
وأبرز منسقا العمل أنه تم التأكيد في مختلف المساهمات المتضمنة في هذا العمل على “تعدد مكونات الهوية المغربية”، فضلا عن إثارة قضايا تتعلق بإنصاف المضطهدين والأقليات والمهمشين والشباب والنساء، إلى غير ذلك من المواضيع.
وحسب منسقي العمل، يعد هذا الإصدار كتابا أكاديميا يقدم طبقا معرفيا شهيا حول حقب مختلفة من تاريخ المغرب بأقلام باحثين ومؤرخين من خلفيات متعددة. وأضافا أنه يتوخى أن يصبح الشكر والتقدير والعرفان “تقاليد راسخة في الأوساط الجامعية، وبين أصحاب حنطة التاريخ، خاصة أن من شأنها أن تعضد أواصر العلاقات الإنسانية والمهنية والعلمية بينهم”.
وأوضح كل من الطيب بياض وعبدالعزيز الطاهري أن جامع بيضا قام بدور مهم في تجديد الكتابة التاريخية المغربية، “وأسهم إلى جانب آخرين في ترسيخ مقاربات إستوغرافية منفتحة على العلوم الاجتماعية، وخاض غمار مواضيع تاريخية ظلت مهمشة ومسكوتا عنها إلى زمن قريب”، حيث “بذل جهودا كبيرة، منذ أن تولى باقتدار كبير إدارة مؤسسة أرشيف المغرب منذ تأسيسها سنة 2011، لحفظ الأرشيف المغربي وصيانته باعتباره ذاكرة المغرب وأداة رئيسية لكتابة تاريخه، ومظهرا أساسيا من مظاهر الدولة الحديثة”.