التفكير الإستراتيجي للمغرب يقلص قدرة بنكيران على المناورة
وجه عبدالإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رسالة مقتضبة إلى كافة أعضاء الحزب ومسؤوليه، تفيد بعدم تقديم أيّ تصريح أو تعليق على رسالة “رئيس حكومة الكيان الصهيوني وموضوعها”، هكذا جاء في التوجيه. والمقصود هنا الرسالة التي تلقاها العاهل المغربي الملك محمد السادس من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يؤكد فيها قرار دولة إسرائيل “الاعتراف بسيادة المغرب على أراضي الصحراء”.
ومع اختيار حزب العدالة والتنمية التزام الصمت تجاه اعتراف إسرائيل بسيادة المغرب على صحرائه، رغم أن جل الأحزاب المغربية علقت على هذا المستجد الذي يصب في مصلحة الوحدة الترابية، نتساءل: هل تقديم أيديولوجية الحزب على مصالح الدولة يعتبر مبررا سياسيا جعل “العدالة والتنمية” يلتزم الصمت، رغم أن رئيسه السابق سعدالدين العثماني وقّع على وثيقة عودة العلاقات بين إسرائيل والمغرب بتاريخ 22 ديسمبر عام 2020، في العاصمة الرباط؟
تصنف الورقة المذهبية لحزب العدالة والتنمية إسرائيل عدوا لا يمكن التطبيع معه بأيّ حال، لكن تم إحداث شق كبير في هذا المعطى بعدما وقّع الحزب باعتباره قائدا للحكومة على اتفاق عودة علاقات إسرائيل مع المغرب، وبالتالي ما كان ثابتا، أصبح متحولا، وهذا هو منطق العلاقات الدولية والتدبير السياسي.
◙ تفكير الدولة المغربية أعمق من تفكير حزب يستعين بالشعبوية والدين لابتزاز الدولة التي كان لها رأي أشمل وأجدر بالقراءة والتأويل عندما امتنعت عن تفكيك الحزب بعد الأحداث الإرهابية عام 2003
سبق للحزب أن كان محل انتقاد من الديوان الملكي الذي شدد على “التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل، وربطها بآخر التطورات التي تعرفها الأراضي الفلسطينية المحتلة”. بعدما عبّرت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في بيان لها صدر في مارس الماضي عن استهجانها لما أسمته “المواقف الأخيرة لوزير الخارجية (المغربي) الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الأفريقية والأوروبية، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين”.
الدولة المغربية أثبتت عبر تاريخها الطويل قدرتها على استيعاب المتغيرات وضبط التفاصيل، وضبط من يريد الانفلات بالأمور إلى ما يخدم أجندة مغايرة لأهداف مؤسسات الدولة. ولنعد إلى بلاغ الديوان الملكي الموجه إلى حزب العدالة والتنمية، بهدف إعادة قيادته إلى جادة الصواب، وعدم الذهاب بعيدا في التوظيف المغالي للقضية الفلسطينية، باعتبارها موقفا مبدئيا ثابتا للمغرب، لا يخضع للمزايدات السياسية أو للحملات الانتخابية الضيقة، وعدم تشبيكها مع الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد حاليا كموضوع ابتزاز. وهو ما كان رادعا لبنكيران الذي استكان وعاد إلى موقعه ولو مكرها، مقرا أن هناك إمارة المؤمنين التي تهتم بقضية القدس والفلسطينيين، وهي مسؤولة عن النأي بالشأن الديني عن التجاذبات السياسية.
فهل أدرك بنكيران أن مصلحة حزبه هي في التغاضي عن هذه القاعدة التي لم يعد لها أيّ مبرر واقعي أثناء صياغة سياسة الحزب وتعميمها، كون ثوابت الدولة المغربية مبنية على النظام الملكي والوحدة والوطنية والدين الإسلامي. والعدالة والتنمية يجب أن يعرف أن الطعن في أحد القرارات التي تتخذها الدولة هو بمثابة تنكر لثوابت الأمة يرقى إلى مرتبة إعلان صدام مع الدولة. والملاحظ أن بنكيران يعي هذه المسألة التي تخدم وحدة حزبه ومصلحته.
الابتزاز صفة يمتاز بها بنكيران، عندما وظف بعض القضايا كالعلاقات مع إسرائيل التي أمعن في انتقادها بعد خروج حزبه من الحكومة، وهو الذي دافع وقتها عن الاتفاق الذي وقّع مع إسرائيل، مشددا أن حزبه جزء من بنية الحكم في الدولة، ولا يمكنه بالتالي رفض التوقيع.
سيحتاج حزب العدالة والتنمية إلى الكثير من الوقت والمساحة داخل المشهد السياسي لإعادة بناء رأي إيجابي حول سياسة الحزب واختياراته. فهل هناك أي شيء يمكن لقيادة الحزب أن تفعله حتى ذلك الحين؟
يجب أن تكون إحدى أولويات الحزب القطع مع خطاب جله شعبوي، يوظف المفردات الدينية لأغراض سياسية، والذي لم يستطع بسببه تثبيت منتخبيه ضمن دوائرهم الانتخابية، محليا في البلديات ووطنيا في البرلمان، بعد عشر سنوات، ودون أن يكون لغيابهم ذلك الأثر السياسي الذي توهموه.
◙ سبق للحزب أن كان محل انتقاد من الديوان الملكي الذي شدد على “التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل وربطها بآخر التطورات التي تعرفها الأراضي الفلسطينية المحتلة”
يكشف الخطاب السياسي الحالي للعدالة والتنمية عن ضعف واضح في التعامل مع ما يمكن القول إنه قضايا حاسمة في الاقتصاد السياسي للدولة المغربية. وعندما كان بنكيران وحزبه يديران أمور الحكومة ما بين عام 2012 وعام 2021، قام بإعادة النظر في صندوق المقاصة وزاد في الاقتطاعات وفي سن التقاعد ومراجعة طريقة احتسابه. وقد تسبب هذا في خسارة الحزب لانتخابات عام 2021.
بلا شك، يتزعم عبدالإله بنكيران المعارضة الصاخبة للفت الانتباه لا أكثر، ورغم اعترافه بهفواته وكوارث ارتكبها حزبه في الفترة التي حكم فيها، إلا أنه لم يتراجع عن مساره. ومع انتشار الفساد والغلاء وقبله الوباء، أراد بنكيران استغلال الوازع الديني لدى المغاربة، بقصد الرفع من رصيده السياسي بدل شحذ معنوياتهم لتجاوز هذه الظروف الاستثنائية الصعبة. ولعل ما يحتاجه المغاربة في مثل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية هو حزب سياسي يقدم لهم الحلول العملية وتحقيق منجزات، وليس الإمعان في اتهام الخصوم لكسب النقاط الانتخابية.
ونركز هنا على أن تفكير الدولة المغربية أعمق وأكثر فعالية من تفكير حزب يستعين بالشعبوية والدين لابتزاز هذه الدولة، التي كان لها رأي أشمل وأجدر بالقراءة والتأويل، عندما امتنعت عن تفكيكه بعد الأحداث الإرهابية في مايو 2003 بالدار البيضاء، ولم تعتبرها فرصة سياسية سانحة لاستئصاله، عكس ما يقع مع هذا الحزب الذي يستغل الكثير من الفرص ليذكرنا بأنه كان سدا منيعا لتداعيات ما يسمى الربيع العربي على المغرب.
كان على قيادة حزب العدالة والتنمية أن تكون أكثر نضجا وألا تسمح للانتهازية السياسية أن تلقي بظلالها على قرارات وإجراءات رئيسية تم الإعلان عنها منذ ذلك الحين، والتي وضعت المملكة في موقع جيوسياسي قوي أصبح معه الجميع يتقرب من المغرب ويريد كسب وده.