المغرب وقواعد اللعب في التفاوض حول اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي

التليدي

أيام قليلة قبل انتهاء العمل بالبروتوكول الملحق باتفاقية الصيد البحري المبرمة ما بين المغرب سنة 2019، خرج وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة بتصريحات قوية، يحدد فيها مقاربة المغرب ويضع ثلاثة محددات أساسية بخصوص البروتوكول الجديد الذي يتوقع الاتفاق عليه داخل اللجنة المشتركة المغربية الأوروبية.
السيد ناصر بوريطة، تحدث عن ضرورة أن يغير الأوروبيون منظارهم لمفهوم الشراكة، وأن الأمر لا يتعلق فقط بالاستفادة من ثروة سمكية مقابل مبالغ مالية يدفعها الاتحاد الأوروبي للمغرب، وإنما يتعلق بمفهوم شامل للشراكة، تراعى فيه مصالح المغرب الحيوية، كما تحدث عن شرط الاستدامة، وأن أي بروتوكول ينبغي أن يكون حول فائض الثروة السمكية، والثالث، أن المعطى العلمي ينبغي أن يكون محكما حتى يتم حماية الثروة السمكية وعدم تعريضها للتهديد الوجودي.
الكثيرون لاحظوا أن السيد ناصر بوريطة لم يركز على قضية السيادة المغربية، بعد أن كان أكبر شرط يضعه المغرب في مائدة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص هو عدم استثناء الأقاليم الصحراوية (في موضوع الاتفاق الزراعي) أو المياه الصحراوية (في موضوع الصيد البحري) من السيادة المغربية.
قد يرى البعض أن هذا الشرط متضمن في المحدد الأول، أي دعوة المغرب إلى مراجعة المفهوم التقليدي للشراكة، وقد يفهم خصوم الوحدة الترابية للمغرب من ذلك، أن عدم حسم المحكمة الأوروبية في الموضوع، جعل وزير الخارجية يناور بأوراق ضغط أخرى. لكن في الجوهر، تبقى هذه التحليلات من غير سند، بحكم الفارق بين الاتفاقية التي لا تزال سارية المفعول، وهي التي حسمت بشكل قاطع في موضوع السيادة المغربية، وبين البروتوكول، الذي يتوقع انتهاء العمل به في 17 من الشهر الجاري، ناهيك عن التمايز المؤسسي داخل بنيات الاتحاد الأوروبي، فالمحكمة الأوروبية ليست بالضرورة هي التي تحكم مواقف الاتحاد الأوروبي السياسية، وإن كانت تستعمل كورقة للتفاوض لتحسين شروط التموقع الأوروبي على حساب مصالح المغرب.
الذين تابعوا تصريحات وزير الخارجية المغربي، ربما فهموا من ذلك، تغييرا في قواعد اللعب مع الاتحاد الأوروبي، لكن العودة إلى سياق ما قبل إبرام اتفاقية الصيد البحري بين الاتحاد الأوروبي والمغرب سنة 2019، يبين أن مقاربة المغرب لم يحدث فيها تغيير كبير، ففي تلك الفترة بالذات، كان الحديث من جانب الطرف المغربي المفاوض على ضرورة الحفاظ على الثروات السمكية، وأن الشراكة ينبغي أن تكون في الفائض فقط، وكان موضوع السيادة على المياه الصحراوية خطا أحمر بالنسبة إلى الرباط، وتم التأكيد على ضرورة مراجعة مفهوم الشراكة، وأنها لا بد أن تقوم على قاعدة رابح/رابح، بل كانت الشروط التقنية أكثر تشددا، فقد طالب المغرب بضرورة إقحام العامل البشري المغربي في الأساطيل الأجنبية، واشترط أن تكون المراقبة لهذه الأساطيل مغربية، بل أكثر من ذلك، فإنه ألزمها بإفراغ الشحنات السمكية في مدينة العرائش.
معنى ذلك، أن تصريحات ناصر بوريطة تعيد فقط التأكيد على المقاربة المغربية التي تم اعتمادها قبيل اعتماد اتفاقية الصيد البحري سنة 2019، مع التأكيد على الفرق بين التفاوض على الاتفاقية، والتي تفترض تشغيل كل أوراق الضغط، وبين الاتفاق على تجديد البروتوكول، والتي تقتضي ربما مجرد إعادة التأكيد على محددات المغرب في التفاوض.
ثمة من يزعم أن السياق الحالي مفارق تماما لما قبله، وأن ما يميزه اليوم، هو الافتقار إلى قرار جديد للمحكمة الأوروبية، والذي لا يتوقع صدوره إلا في الفصل الأول من السنة القادمة (2024) وأنه تبعا لذلك، فإن السيناريو الوحيد الذي يوجد بين يد الأوروبيين هو توقيف العمل بالبروتوكول إلى حين صدور هذا القرار.

الاتحاد الأوروبي، يخشى من عدم تجديد البروتوكول، لأن ذلك يضر بمصالحه الحيوية (الأمن الغذائي) كما يضر بالسلم الاجتماعي لمنطقة مهمة من إسبانيا التي ترأس الاتحاد الأوروبي اليوم

وثمة من يقرأ في تصريحات السيد ناصر بوريطة صعودا للجبل، وتعبيرا عن عدم رغبة المغرب بالمطلق للاتفاق على البروتوكول الجديد لأنه لا يخدم مصالح المغرب خاصة بالشكل الذي يقارب به الاتحاد الأوروبي هذا الموضوع.
لكن القول بهذا السيناريو، يستتبعه بالضرورة أن يتوقف البروتوكول لشهور (أدناها ستة أشهر) وهو ما يعني ضرورة خروج الأساطيل الأوروبية للصيد البحري من المغرب، وحاجة دول الاتحاد الأوروبي خاصة إسبانيا وفرنسا وإيطاليا إلى بدائل لتعويض النقص الهائل في الثروة السمكية التي تلبي حاجيات السوق الوطنية، بل هذا يعني بشكل واضح تعريض السلم الاجتماعي بمنطقة الأندلس بإسبانيا إلى التهديد خاصة وأنها تمثل المستفيد الأول من هذا الاتفاق.
ليس ثمة شك أن أوروبا تتمتع بثروة سمكية هائلة، لكن نسبة الاستهلاك الأوروبي من السمك يجعل هذه الثروة السمكية الهائلة غير كافية، فإسبانيا التي تمتلك ثاني أسطول للصيد البحري بعد اليابان، يستهلك المواطن الواحد فيها ما بين 60 و65 كليو من السمك سنويا وهذا ما يفسر عدم كفاية المنتوج السمكي الأوروبي لتلبية السوق الداخلي، بخلاف المغرب، فإن نسبة استهلاك الفرد الواحد سنويا لا تتعدى في أحسن الأحوال 7 كليو للفرد الواحد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مجمل الاستهلاك المغربي ينصرف إلى الأسماك الزرقاء وبشكل خاص السردين وهو ما لا يدخل ضمن سلة الاستهلاك الأوروبي الواسع.
تحليل تركيبة الوفد المغربي المشارك في التفاوض ضمن اللجنة المشتركة الأوربية المغربية يقول الكثير، فقد رأست السيدة زكية الدرويش الوفد لخبرتها الطويلة في مجال التفاوض، لاسيما في الشق السياسي والإداري منه، فقد كان لحنكتها وخبرتها التفاوضية دور كبير في إبرام البروتوكول السابق، كما حضر ضمن الوفد مدير مديرية الصيد البحري حتى يؤمن شرط أن تكون الشراكة في الفائض من الثروة السمكية، وحضر مدير المعهد الوطني للصيد البحري، حتى يؤمن شرط الاستدامة، وعدم تعريض الثروة السمكية للانقراض.
التأمل في تركيبة هذا الوفد، تعني جدية المغرب في التوصل لبروتوكول يؤطر الاتفاقية التي تم التوصل لها سنة 2019، لكنها في الوقت ذاته، تعني ضرورة التقيد بمحددات المقاربة المغربية.
الاتحاد الأوربي، الذي ترأسه حاليا إسبانيا، لا يوجد أمامه أي حرج سياسي في تجديد البروتوكول، ولا يشكل قرار المحكمة الأوروبية عائقا له، فالقضايا السياسية حسمتها الاتفاقية سارية المفعول، والبروتوكول هو أشبه ما يكون بترجمة إدارية وتقنية للاتفاقية. ومن زاوية ثانية، فإن الاتحاد الأوروبي، يخشى من عدم تجديد البروتوكول، لأن ذلك يضر بمصالحه الحيوية (الأمن الغذائي) كما يضر بالسلم الاجتماعي لمنطقة مهمة من إسبانيا التي ترأس الاتحاد الأوروبي اليوم.
المغرب نفسه، يخشى من عدم تجديد البروتوكول، لأن التوقف لشهور عن تنفيذ اتفاقية الصيد البحري، معناه إعطاء زخم لأطروحة «البوليساريو» التي ستدعي أنه بفضل تحركاتها الدبلوماسية «نجحت» في توقيف العمل باتفاقية الصيد البحري.
في الواقع، ما يجري هو أقرب ما يكون إعادة سياق ما قبل 2019، الذي نجح فيه المغرب في فرض شروطه في إبرام اتفاقية الصيد البحري، لكن هذه المرة، هناك ورقة ضغط كبرى تضعف الموقف الأوروبي، وتقوي الجانب المغربي، وهو حاجة الأوروبيين إلى ثروة سمكية تلبي حاجتهم، والتخوف من السلم الاجتماعي في منطقة الأندلس الإسبانية، وأكثر من ذلك التخوف من أن يذهب المغرب لشركاء آخرين في هذا المجال، ويعرض بذلك المصالح الأوروبية للخطر والمنافسة غير المتكافئة. ولذلك السيناريو الأقرب، هو عقد بروتوكول جديد بتحقيق منسوب أكبر للشروط المغربية، مع الإبقاء على سريان اتفاقية الصيد البحري السابقة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: