يتميز المغرب بتنوع ثقافي كبير تمكن في الفترات الأخيرة من الاستفادة منه ودعم اختلافه بدل محاولات تذويبه في قالب واحد على غرار ما فعلته الكثير من الدول الأخرى. ويبقى المكون الأمازيغي أبرز مكونات الثقافة المغربية، ولكنه يواجه الكثير من المغالطات والأخطاء في مقاربته.
ناقش المشاركون في ندوة بعنوان “إضاءات حول تاريخ الأمازيغ” بالمركز الثقافي أحمد بوكماخ بطنجة، واقع المغرب كبلد استطاع صهر عدد من الأعراق والهويات والثقافات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وخلق منها الشخصية المغربية التي تتشابك بين ثناياها الهويات الأمازيغية والعربية واليهودية والأفريقية، مع التركيز على تجاوز الأطروحات العرقية والأصوليات الثقافية ومعها كل الأطروحات الهوياتية الضيقة في المغرب التي لم تعد تتمتع بالجاذبية التي كانت لها من قبل.
وأدلى بآرائه في الندوة الباحث والناشط الأمازيغي أحمد عصيد، وامحمد جبرون، مؤرخ وأستاذ بجامعة تطوان، وعبدالخالق كلاب، أستاذ جامعي بمراكش، والباحثة المغربية نضار الأندلسي، وتكلف بتسيير الندوة الإعلامي محمد علو، وقد أقيمت في إطار الدورة 17 من “مهرجان ثويزا” الذي اختتمت أشغاله الأحد التاسع من يوليو 2023.
الأمازيغية المغربية
تحدث امحمد جبرون المؤرخ والباحث في التاريخ والفكر السياسي الإسلامي مؤكدا أن “التفكير في الأمازيغية والأمازيغ يبدو في حاجة ماسة إلى المراجعة وإعادة النظر في ضوء ما استجد من معطيات وكشوفات علمية وأثرية، وفي ضوء أيضا ما شهده الفكر الإنساني من تطورات نوعية في السنوات الأخيرة، فالأطروحات العرقية والأصوليات الثقافية ومعها كل الأطروحات الهوياتية الضيقة في المغرب أضحت غير جذابة، وفقدت الكثير من مظاهر الإغراء الذي كانت تتمتع به في العقود الماضية”.
وأضاف جبرون “لا زال بعض المنتسبين للتيار الأمازيغي سلفيّي المنزع في علاقتهم بالأمازيغية في تجاهل تام لهذه التحولات النوعية، ولا زال بعضهم يردد أفكارا وفرضيات ثَبت بالملموس خطؤُها، مستغلا في ذلك وسائل الإذاعة الحديثة، ورخاوتها، ومستغلا أيضا ‘غريب الحديث‘ لشد الناس ولفت انتباههم إلى أفكاره”.
الأمازيغ في الحقيقة، وبغض النظر عن التسمية، هم نسيج عرقي متنوع يتشكل من فسيفساء بشرية متعددة الروافد
وقد أوضح أحمد عصيد الباحث في المعهد الملكيّ للثقافة الأمازيغيّة أن الندوة لها أهميتها وراهنيتها، وأن “سؤال التاريخ من الأسئلة الكبرى المطروحة في بلادنا وفي الجوار”، وقال متوجها للحضور “لكن ما الجدوى من الحفر في التاريخ، إذا كان المغرب يتجه إلى المستقبل، وما الفائدة من الخوض في نقاشات لا تنتهي إلى شيء؟” ليجيب “نعود إلى النبش في تاريخ البلد من أجل تقوية الحاضر”.
وعن سؤال من هم المغاربة يقول أحمد عصيد إن شمال أفريقيا كان مسرحا للهجرات، والموجات السكانية والهجرات والتبادل التجاري، وغيرها، ولكن الكثافة السكانية كانت تستوعب كل الهجرات، ويبدو أن الكتلة السكانية
كانت كبيرة جدا، وكانت قادرة على تذويبهم جينيا، مؤكدا أنه “لا توجد وثيقة واحدة من وثائق الحركة الأمازيغية تتحدث عن سند عرقي، لكوننا نعتبر فكرة العرق فكرةً حربيّة أيديولوجيّة وغير علمية”، مضيفا إنّ “النخبة الأمازيغية ذكية لكونها اعتبرت الأمازيغية شأنا
يهمّ جميع المغاربة ولم تقل إنها شأن فئة أو نوع، ونفس شعارات الحركة نجدها واردة في خطابات العاهل المغربي الملك محمد السادس منذ خطاب أجدير لسنة 2001”.
وأفاد عصيد أنّ “الحركة الأمازيغية عملت في نصف القرن الأخير على إعادة بناء هذه المعضلة، وبالتالي إعادة التأسيس لمفهوم اللغة بين المنظومتين التقليدية والحديثة”، لافتا إلى أنّ “نخبتنا التقليدية كانت تعتقد أن اللغة هي ما يكتب، لكن هذا الطرح فنّده درس اللسانيات منذ فرديناند دو سوسير إلى جاكوبسون، اللذين أظهرا بأن اللغة تتجاوز ما يكتب لتكون نسقاً من الرّموز والعلامات التي تفيد التّواصل داخل مجموعة لسانيّة محدّدة”.
فيما سجل جبرون، أن “التفكير في الأمازيغية اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن عن انطلاقه مختلف في سياقه تماما عن سياق البدايات، ويمكن اختزال أهم المتغيرات التي شهدها المغرب ما بين الأمس واليوم في ثلاثة متغيرات كبرى، تراجع خطاب القومية العربية، وصعود النزعات الوطنية والمحلية، وخاصة بعد الانتكاسات العسكرية والسياسية التي مني بها القوميون العرب، الشيء الذي حفز الدول العربية بما فيها المغرب على إعادة تعريف هويتها، وتبنّي أطروحات أكثر انفتاحا واستيعابا للخصوصية المحلّية.
وفي هذا الصدد أصدر العاهل المغربي الملك محمد السادس قرارا في مايو الماضي بأن يكون يوم رأس السنة الأمازيغية الذي يوافق الثالث عشر من يناير من كل عام عطلة وطنية، على غرار رأس السنة الهجرية والميلادية. وقال بيان للقصر الملكي إن القرار يأتي تجسيدا للعناية الملكية بالأمازيغية باعتبارها مكونا رئيسيا للهوية المغربية، وفي إطار التكريس الدستوري للأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية.
وذكر عصيد أنّ “الحركة الثقافية عملت أيضا على إعادة تأسيس مفهوم الثقافة، بفضل الدرس الأنثروبولوجي خلال القرن العشرين، نظرا إلى كون النخب مجددا كانت تعتقد أن الثقافة هي ما يدرس في المدرسة، والمثقف هو المتعلم الذي يقرأ الكتب”، مسجلاً أنّه “في النهاية ظهر أن الثقافة هي كل ما يكتسبه الإنسان من وسطه الاجتماعي ويضاف إلى طبيعته الأصليّة كاللسان والتقاليد والعادات”.
من وجهة نظره انتصر عبدالخالق كلاب، أستاذ جامعي بمراكش، إلى فرضية أن المغاربة أمازيغ، مبرزا أنه لا معنى ولا جدوى من هذا النقاش الذي يزعم أنه محسوم. مضيفا “تاريخ الأمازيغ محسوم، ولا يجب أن يطرح هذا السؤال، بناء على المناهج التاريخية والكرونولوجية والأنثروبولوجية، بل ما تم العثور عليه بجبل أغود خير دليل على ذلك، بحيث يعود ما وجد هناك إلى 3500 سنة”، بمعنى أن تاريخ الأمازيغ بالمغرب يمتد إلى 3500 سنة.
الصحوة الأمازيغية
وقال امحمد جبرون إن “الكثير من النشطاء والفاعلين في حقل الثقافة والحركة الأمازيغيتين يعتقدون أن الأمازيغ السكان الأصليون للمغرب هم عرق وإثنية لها خصوصيتها واستقلاليتها التي تتأسس على ما هو بيولوجي وتمتد إلى اللغة والثقافة ونمط العيش، وهذا الاعتقاد هو – للأسف الشديد – اعتقاد خاطئ، ولا تؤيده الحقائق العلمية والأبحاث
الأركيولوجية، فالأمازيغ على الحقيقة – وبغض النظر عن التسمية – هم نسيج عرقي متنوع، يتشكل من فسيفساء بشرية متعددة الروافد، فبلاد المغرب بحكم موقعها الجغرافي استقطبت عناصر بشرية مختلفة من الشمال والشرق والجنوب مكونة بذلك قاعدة السكان الأصلية، التي ما فتئت تتطور عبر قرون”.
وتم تبني قانون ينظم استعمال الأمازيغية في الوثائق الإدارية، في العام 2019، وتعميم تدريسها تدريجيا خلال 15 عاما، وفي العام 2003 أقر قانون كتابة الأمازيغية بحرف تيفيناغ، الذي يتصدر واجهات مؤسسات رسمية، كما يسعى المغرب إلى تعميم تدريسها لتلامذة المرحلة الابتدائية بشكل تدريجي، ابتداء من العام الدراسي المقبل، ليشمل نحو أربعة ملايين تلميذ بحلول عام 2030، وفق ما أعلن وزير التربية الوطنية.
الصحوة الأمازيغية استفادت من الكثير من الدراسات الثقافية والتاريخية الكولونيالية حول الأمازيغ والثقافة الأمازيغية في المغرب
وإعادة التفكير في الأمازيغية اليوم وبعد كل الذي مرّ بنا في العقود الثلاثة الماضية، حسب جبرون، أسفرت عن عدد من الإصلاحات كانت الغاية من ورائها استعادة توازننا الثقافي والهوياتي، والتنبيه إلى بعض الانحرافات المكلفة ذات الطابع الإثني والسياسي. فلقد آن الأوان أن يتخلص التفكير في الأمازيغية من الروح الاحتجاجية، ومن خطاب المظلومية والأقلية والعرقية أو بعبارة أخرى التخلص من الطابع الأصولي الذي يجعلها بديلا عن الكلِّ، مستقلة بذاتها عن الآخر.
ومن منظوره يعتقد عصيد أن المشكل كان في أن الدولة الوطنية المركزية كانت تقوم على خلق التجانس المطلق وإقصاء عناصر التنوع، والدولة المغربية الناشئة الحديثة بنيت كما بنيت الدولة الوطنية في أوروبا، وفق تشخيصه. ويعود ليذكر بالمشكل الأول، وهو أن الدولة انتصرت للرواية الموجودة في الأيديولوجيا العربية.
ورد المؤرخ امحمد جبرون بأن “الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب المستقل نشأت في سياق سياسي وثقافي خاص واستثنائي، تميز أساسا بهيمنة الفكر القومي على الثقافة والسياسات الثقافية في كافة البلدان العربية، وفي ظل هيمنة الدولة الحديثة التي أممت الشأن الثقافي وجعلت منه سياسة رسمية حيث ظهرت لأول مرّة في تاريخنا مفاهيم من قبيل: اللغة الرسمية، الثقافة الوطنية، السياسة الثقافية… إلخ”.
وتابع جبرون “هذا السياق تسبب من حيث قصد إلى ذلك أو لم يقصد في استفزاز الوجدان المحلّي/الثقافي، وأدى إلى ظهور ردود فعل ثقافية مشروعة تثير الانتباه إلى الخصوصية الثقافية المحلّية، وتُذكِّر بالأبعاد الأمازيغية في الهوية المغربية، وأن العروبة الثقافية والحضارية للمغرب التي عاش في ظلها قرونا عديدة ليست – أبدا – نسبا عرقيا، كما يحلو للبعض تصوير المسألة. وقد استفادت هذه الصحوة الأمازيغية من الكثير من الدراسات الثقافية والتاريخية الكولونيالية حول الأمازيغ والثقافة الأمازيغية في المغرب”.