شكلت عمليات إحراق الكتب و المكتبات إحدى الطقوس الملازمة لكل انتقال للسلطةبالحروب أو الثورات أو الانتقال الى إيديولوجية أخرى في اكثر من محطات التاريخ الإنساني ..و تخبرنا أحداثا تاريخية فارقة في تاريخ الإنسانية ان عمليات إحراق الكتبسواء تلك التي تتخد من الدين مضمونا أو تلك التي تقارع أفكارا فلسفية أو فكرية أوأيديولوجيات سياسية و إجتماعية…أنها تشترك في صك إتهام واحدا ، وهو معارضتهاللقيم الأخلاقية و التعاليم الدينية أو تعارض أفكار النخبة الحاكمة أو المسيطرة…
لذلك فقد كانت عمليات الحرق تلك بمثابة “جرائم تطهير ثقافي ” و إلغاء لكل المعالمالثقافية والفكرية التي كانت تؤثت مرحلة معينة، لشعب أو دولة معينة …و تطورت تلكالجرائم من الحرق و التدنيس إلى ما يعرف اليوم بظاهرة ” ثقافة الإلغاء ” cancel culture والتي تتخذ من الأشخاص هدفا لها قصد التبليغ عن أخطائهم و بالتالينبذهم…وهنا نكون أمام مفاهيم مقلوبة من ” إلغاء ثقافة ” الآخر ، إلى ” ثقافة الإلغاء ” لكلفكر معارض و منهج مخالف.. وهنا أيضا سنكون أمام ثنائية ” حرية التعبير ” كحقإنساني كوني من جهة ، و احترام خصوصيات و حريات الاخرين في التفكير و المعتقد منجهة ثانية…إذ من غير المعقول فرض فكر أو الغاء فكر بقوة الحديد و النار…
فالتاريخ نفسه يحدثنا عن الامبراطور الصني صاحب الجيش الطيني سنة 212 ق/م الذيحرق آلاف الكتب و دفن كتابا و مفكرين أحياءا..
التاريخ يحدثنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد ” البابا باولو الرابع ” عن ” قائمةالكتب الممنوعة ” سنة 1559 لأنها ” هرطقة ” ضد الايمان و الاخلاق…و من بينها كتابالأمير لنيكولو ماكيافيلي و قصص Decameron …وغيرها…و ستعرف قائمة المنع العديدمن التعديلات قبل ان يطالها الإلغاء سنة 1966 أي بعد اكثر من 400 سنة…!
التاريخ يحدثنا عن وزير البروباغاندا النازي ” جوزيف غولبس ” و كيف وقف مزهوا ليلة10 مارس من سنة 1933..يتابع عملية إحراق أكثر من 25 الف كتاب لا يتماشى مضمونهامع الفكر النازي..حيث اغلب كُتابها غير ألمانيين أو من اليهود او اشتراكيين و على راسهمكُتُب كارل ماركس و بيرتولد بريخث و هامينغواي و جاك لندن و طوماس مان و ايريشكاستنر و كافكا…و لم يستثن حفل احراق برلين لسنة 1933 نسخ من المنشورات الدينية والإنجيل…
و كذلك فعلت التنظيمات الإرهابية ” القاعدة ” و ” داعش ” بحرق المتاحف و تدمير مآثرتاريخية مهمة سواء بالعراق أوسوريا..و كذا قيام حركة ” طالبان” بتدمير تماثيل و قطعاثرية لا تقدر بثمن بافغانستان…
و قد سجل التاريخ أيضا، حركات احتجاج ضد عمليات الحرق و محاولات إبادة ثقافاتالشعوب الاصلية سواء في أمريكا أو إفريقيا…إذ تم رفع عمليات الحرق الى جرائم ” تطهير ثقافية ” و ” بيبليوفوبيا ” بإحراق مكتبات من حجم مكتبة بغداد في عهد المغول ومكتبة القسطنطينية و المكتبة الفرنسية بستراسبورغ سنة 1870 و مكتبة البوسنه ومكتبات ليتوانيا و كمبوديا و كابول و غيرها …لان المكتبات تُشكل خزانات لأسلحة فكريةوثقافية و سياسية و لايديولوجيات عابرة للجدران…قد تفلح النيران في أكل أوراقها …لكنها لن تصل أبدا الى إبادتها بالكامل فكتابات ابن رشد و الغزالي..مثلا ، لازالت حية رغمالاحتفال باحراقها ذات سياق زمني بالاندلس..
نسوق هذا السرد السريع لأهم أحداث إحراق الكتب والمكتبات في التاريخ الإنساني..اذ كنانعتقد ان العالم الغربي الذي يتغنى بالديمقراطية و حقوق الانسان و حرية المعتقد ..أنهقطع مع كل اشكال التطرف الفكري و كل اشكال إلغاء ثقافة الآخر..كما كِدنا نعتقد أن الفكرالإنساني قد وسع من هامش ” ثقافة قبول ” إختلاف ثقافة الاخر…فبالامس سُمح بنشررسوم ساخرة من رسول المسلمين تحت يافطة حرية التعبير و كذلك سُمِح باحراق نسخ منالقرآن الكريم في أكثر من عاصمة غربية تحت نفس المبرر/ الحق.. دون مراعاة شعور كلالمسلمين في العالم و السخرية من رموزهم و معتقداتهم..وضدا في الحق في حرية المعتقدو ممارسة الشعائر الدينية / الإسلامية…
فكلنا يتذكر احتجاجات الغرب و توسلاتهم و تقديم إغراءات مالية و وُعود بالمساعدات…لحركة طالبان المسجلة ” إرهابية ” عند عزمها على تدمير ” تمثال بوذا ” بافغانستان..باعتباره تراثًا إنسانيا..
بالمقابل لم نشهد تلك المنظمات والوجوه الحقوقية والاقلام الديمقراطية…تحتج أو تندد أوتصرخ في وجه ذلك ” المعتوه ” الذي تجرئ في اول أيام عيد الأضحى بكل دلالاته الدينيةو الرمزية..بحرقه لنسخة من القرآن الكريم في دولة السويد الديمقراطية و التي تدعيحماية الأقليات وحقوق الإنسان..حيث رخصت بقرار قضائي السماح بحرق ” كبد “ المسلمين أمام مسجد ستوكهولم..وضدا في المواثيق والقوانين والاخلاقيات الكونيةالمُهيكِلة لحق و حرية المعتقد…
فلم يعد العقل و الفكر الإنساني يقبل بمثل هذه التصرفات المتطرفة الرافضة للآخر..كما لميعد المجال متسعًا لتبرير تصرفات مستفزة تنتمي لزمن الطغاة و للعصور الوسطى والفاشية و الاستعمار…و تساهم في خلق بيئة حاضنة للكراهية و العنصرية و الإقصاء..