الهجرة إلى الفضاء الثالث: أدباء مغاربة يبسطون رؤاهم وتجاربهم في المهجر الأوروبي
لم يعد المهجر بالنسبة إلى الكاتب سوى منفى اختياري، وهو يبحث لنفسه وتجربته في الحياة والكتابة عن أفق جديد يتيح له إمكانات أوفر للتأمل ومغامرة الذات والاندماج في التجربة الإنسانية. ولّى الزمن الذي كان فيه الوطن هو «الفردوس المفقود» والهجرة بمثابة صراط العذاب والمعاناة والحنين الجارف. لقد صارت الهجرة تتيح فضاءً ثالثاً يشكل بالنسبة إلى الكتاب في وقتنا الراهن محكّاً حقيقيّاً للإبداع في قالب إنساني أوسع يتجاوز المحلي الضيق، لكن دون أن ينكر هذا الكاتب أو ذاك شرط الذاكرة وجذور ثقافته الأصلية؛ فهو ما زال يحمل إرثه، ويتابع أخبار وطنه، وما زالت رائحة التربة تعلق بخطواته في «غابة المهجر» وإن كانت تجربة المهجر على المستوى الشخصي لا تعني العيش بسلام، بل إنّ بعضهم يعيش مأساة التمزق بين فضاءين وثقافتين. ويُحسب لهؤلاء الأدباء المهجريين أنهم غيروا ـ عموديّاً- في ملامح الأدب العربي المعاصر، وفي طبيعة الإشكالات المعرفية والجمالية التي يستدعيها، وفي طليعتها إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب. مثلما جسد هذا الأدب في حد ذاته تحولات جمالية وموضوعاتية بالغة الأهمية، ورغم ذلك لا يزال النقد إلى اليوم يراوح مكانه. وفي هذا السياق، طرحنا على بعض الأدباء المغاربة الذين يعيشون في المهجر الأوروبي: مثل هذه الأسئلة: ماذا يعني لك المهجر كمكان وانعكاس للقاء بين ثقافتين أو فضاءين (الفضاء الثالث)؟ إلى أيّ مدى أفادتك تجربة المهجر في بلورة مشروعك الأدبي؟ ما هي أبرز الإضافات التي قدمها الأدب المهجري خلال العقدين الأخيرين؟
مصطفى الحمداوي: تجربة الهجرة كمسار أنطولوجي
إن المكان – أي مكان- هو مركز الوجود، في تقابل مُكمِّل للمقولة العميقة لهيدغر: «اللغة هي مسكن الوجود» أو ما يمكنني تسميته بـ»وطن الكتابة الثابت». إذن المكان في بعده الإبداعي يشكل خصوصيات متنوعة، ذلك لأن المبدع في بلاد المهجر يعيش ثقافات متقاطعة ومتوازية أيضاً، وهويات مختلفة. وبالتالي المبدع يعيش جغرافيا موحدة تجمعه مع نماذج إنسانية بالغة الثراء؛ ثراء يستمد شرعيته الإيجابية من الاختلاف، الذي يُولِّد بدوره مشتركاً إنسانياً تفرضه التعدّدية التي تتسم بها الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلد المهجر. وبهذا المعنى وغيره، لا أرى مطلقا أي سبب يفتعل اشتباكا وهميا بين ما كنتُ عليه، ككاتب، قبل الهجرة، وما أنا عليه بعد الهجرة، بل أرى أن الهجرة تتيح فضاءً ثالثاً إضافيا شكل بالنسبة لي مُتنفساً لتفريغ الإبداع في قالب إنساني أوسع، وبحمولة غير مُغرقة في المحلية الضيقة.
وفي المُحصّلة، فإن تجربة الهجرة، كمسار أنطولوجي، هي كأي تجربة إنسانية كبرى، تُولِّد بالضرورة نتائج حاسمة. لهذا أجدني في الهجرة أعيش حياتي وحيوات الآخرين وهوياتهم على نحو مباشر وغير مباشر. إنها تجربة إنسانية تجعلك في صلب مجتمع الهجرة المتشبع بقيم إنسانية تُكمِّل أو تضيف لقيَمك الشخصية المحضة. أعتقد أنني استفدت بشكل كبير من إقامتي ككاتب في بلاد المهجر، لأن الكاتب كَوْنيُّ الصياغة والتجربة. تصورات كثيرة اختلفت بسبب احتكاكي المباشر داخل فسيفساء المجتمع الهولندي الذي يضم كل هويات وثقافات وعقائد العالم تقريبا. وباعتبار الذاكرة وعاء حاملا لأحداث وتصورات عن أمكنة مختلفة من بلد الجذور، فإن الذاكرة تبقى الأساس في بناء مخيال خصب ودائم للإنتاج والإبداع. وفي ظل هذا المُكوِّن المهم، لا يمكن للكاتب إلا أن يقرأ الكثير من العناصر الحيّة المحيطة به، ومن خلال ذاكرته أيضاً. إن العيش في بلد متعدد يمنحك الفرصة، ككاتب، لتعيش بخيال واسع يستمد امتداده من الذاكرة أولاً، ومن بلد الإقامة، ثم ممن تحتك بهم من المهاجرين الذين ينحدرون من خلفيات ثقافية مختلفة. لا يمكننا تجاهل الإبداع المغربي بكل مكوناته، بل ومن كل رقعة جغرافية استوطنها. وهنا لا بد من أن نؤكد على التحول الكبير الذي عرفه الإبداع الأدبي المهجري في العقدين الأخيرين. ونخص بالحديث الأدب المكتوب باللغات الوطنية المغربية. وفي تقييم سريع لموقع أدب الهجرة داخل منظومة الأدب المغربي، لا يمكننا تجاهل أسماء رسخت لنفسها موقعا ثابتاً في المشهد الإبداعي. ولا يمكننا أيضاً، وربما يكون هذا المعطى أساسيا، تجاهل ما يحصده بعض كُتّاب المهجر من جوائز في مختلف الأجناس الأدبية على المستوى الدولي والعربي. لكنني أعتقد أن أهم ما أضافه بعض كُتَّاب المهجر يكمن في ابتكار صيغ متفردة وجديدة في الإبداع، وبغض النظر عن قيمة هذا الإبداع، إلا أنه يؤسس لنواة مشروع غير نمطي وتقليدي في الكتابة الإبداعية.
محمد ميلود غرافي: لم يعد لديّ إحساس أني أعيش في المهجر
بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من إقامتي في فرنسا، لم يعد لديّ إحساس أني أعيش في المهجر، أو على أقل تقدير، تقلصت بشكل كبير تلك المسافة التي كنت أشعر بها في أيامي وسنواتي الأولى، بين ما يسمى بثقافة البلد الأصلي وثقافة بلد المهجر. لقد تأقلمت وفق ما تقتضيه شروط الحياة بكل تفاصيلها ومحطاتها الكبرى مع ثقافة أوروبا، دون أن أفقد الصلة بثقافتي المغربية العربية الأمازيغية لغة وذاكرة ووجدانا. ولكي يكون هذا التأقلم طبيعيا، لا رابح فيه ولا خاسر، لا متسلِّط فيه ولا متسلّط عليه، كان لا بد من الاقتناع بشيء واحد: الارتكان إلى المشترك الإنساني والإيمان بأن الاختلاف رحمة، والتنوع الثقافي غنى. كل ما عدا ذلك استثناء ولا يعول عليه. كان طبيعيا وأنا أنتقل كمبدع إلى فضاء آخر بكل ما يحلمه الفضاء من قيم وثقافة ومعرفة وعلاقات إنسانية ومجتمعية، أن يكون لذلك الفضاء تأثير في تجربة الكتابة لديّ. يمكن أن أميز في هذا التأثير بين محطتين أساسيتين: محطة الذاتية التي انعكست فيها تجربة الاغتراب لديّ على حياتي كفرد يعاني من البعد عن الأهل والوطن (هذه الكلمة لا يستعملها إلا الكتاب العرب!) ومن قساوة الحياة الجديدة بإكراهاتها المعيشية والاندماجية، فأثمرت نصوصا ضمنتها مجموعتي الشعرية «حرائق العشق» (2002) ومحطة الرؤية الموضوعية للأشياء والناس من حولي، أو لنقل تجربة الكتابة عن الهوية والآخرية، كإشكالات ثقافية وحضارية. فجاءت مجموعتي الشعرية «أمضغها علكا أسود» (2009) كقراءة لهذه الإشكاليات من منطلق التمثلات الجماعية وليس الفردية. وعندما احتجت إلى قراءة مفصلة لعلاقة الذات الجماعية بالآخر، وإلى وضع البلد الأصلي والمهجر في علاقة مرآتية تصويرا ونقدا، كتبت رواية «لم أر الشلالات من أعلى» (2011). منذ سنوات لم أعد أسيرَ الكتابة إبداعياً عن إشكالات الهجرة كموضوعات مركزية. ربما لأني شفيت من «الوطن» و»المهجر» معا فصار الهمّ الإنساني بشكل عام هو بؤرة انشغالاتي الأدبية الراهنة، دون أن أعطي لهذا البعد الإنساني طابعا مثاليا، أو أن أنزع عنه خصوصياته الثقافية واللغوية والمجتمعية والحضارية. إن الأدب العربي المهجري تغير كثيرا منذ نهاية القرن العشرين إلى الآن. فبعدما كان موضوع الهجرة في الأدب العربي مبررا فقط لتناول سؤال العلاقة بالآخر، في ما يسمى أدب ما بعد الكولونيالية، أصبح الآن يتناول الهجرة والمنفى واللجوء كموضوعات مستقلة وقائمة بذاتها. من جهة ثانية، لم يعد الأدب العربي يتناول هذه الإشكاليات بشكل عمودي فقط، أي في علاقة العرب بالغرب أو الجنوب بالشمال، بل بشكل أفقي أيضا منذ أن أصبح يتناول إشكالية الهجرة والاغتراب داخل العالم العربي نفسه (الهجرة إلى بلدان الخليج مثلا).
حنان درقاوي: الهجرة جعلتني أخلع قفاز الحرير!
المهجر يعني بالنسبة لي الإقامة بين بين، فأنا فيه مثل المتصوف؛ الجسد في الحانوت والعقل في الملكوت. أعيش الزمن المغربي بكل تفاصيله. أتابع الأخبار المحلية وأقرأ الجديد ما تمكنت من ذلك. كتبت رواية واحدة عن إقامتي في فرنسا هي «جسر الجميلات» (2014) عن أيامي الأولى في ضواحي باريس، عن التشرد والإقامة في ملجا للنساء المعنفات. لم أكن مرشحة للهجرة. كنت أشتغل وأكتب، إلا أن ظروفي الأسرية كانت صعبة، خاصة بعد عودتي من الصويرة إلى العيش مع الأسرة. بدأ إخوتي يعتدون عليّ بالضرب لسبب ودون سبب. تزوجت من مهاجر أملت معه أن أبني أسرة صغيرة متحابة. بعد سنة غادرت بيت الزوجية بسبب العنف الزوجي. تشردت مع بناتي لأربعة أشهر قبل أن أجد عملا ومسكنا. المهجر بالنسبة لي كمكان هو اللايقين؛ الأرض تميد تحت قدمي. ورغم أني مستقرة في شقة منذ سنين، إلا أني اخاف التشرد ثانية. عشت البطالة في فرنسا ولم أعشها في المغرب. فشلت في إيجاد وضعية اجتماعية مريحة، رغم أني عدت للدراسة في مجال علم النفس. الهجرة أضافت أبعادا مأساوية إلى حياتي وجعلتني أخلع قفاز الحرير الذي كنت ألامس به الواقع، لهذا أتت كتاباتي في فرنسا بعيدة عن الشاعرية التي طبعت أعمالي الصادرة في المغرب ودبي. تغيرت أشياء كثيرة في داخلي. تزلزلت ثقتي في طيبة الإنسان الأصلية. تهت في مجتمع جديد حيث المغريات الكثيرة والاستهلاك، لكنني عرفت دائما طريقي إلى المكتبات العامة والخاصة وغرفت منها أصنافا من العلوم. عمقت معرفتي بالأدب الفرنسي والأنكلوساكسوني وأدب أمريكا اللاتينية، وعدت لدراسة علم النفس، كما أخضعت نفسي لتجربة العلاج بالتحليل الفرويدي، الذي فتح عينيّ على أعماقي الموغلة، واكتشفت أن لا وعيي تحكم في اختيارات كانت تبدو لي واعية لحظة، أو قدرا في لحظة أخرى، لكن القدر ليس إلا مكبوتات وعينا التي تعود إلينا في شكل قدر مسطر كما يقول غوستاف يونغ. الهجرة أيضا هي المنفى الجميل الذي أتعذب فيه شوقا وأحب هذا العذاب على أن أعود للعودة للعيش في وطن تغيب فيه الحريات الفردية وتهضم فيه حقوق المواطنين. خلال العقدين الأخيرين ظهر جيل جديد من الكتاب المهاجرين أو من الجيل الثاني الذي ولد في المهجر. هناك أصوات استثنائية تعبر عن تمزق المهاجر وأسئلة الهجرة التي تطرحها على الوعي والمثقف، هذه إضافات قيمة إلى الأدب المغربي، فهي تعرف بهموم الجالية المغربية المقيمة في الخارج، خاصة أن هذه الأصوات تبوأت مكانة كبيرة في بلدان الاستقبال مثل ليلي السليماني وليلى العلمي ونجاة الهاشمي وعبد القادر بنعلي ونعيمة البزاز وغيرهم الكثير.
هشام ناجح: المهجر الذي يقتات من ظل دمي!
«أنت في عمر النبوة، وأنت تقرع أرصفة أوروبا الباردة».. أمشي.. أمشي.. وأمشي، والبخار يتناثر من فمي مشكلا رسوما لا يفرز صورها سوى ذهني المحموم، فتأخذ لها معنى. تستهويني اللعبة، فأبالغ في الشهيق والزفير، مقتفيا أثر الكلمات. أمشي.. أمشي.. وأمشي وأرصفة أوروبا الباردة تدعوني لاستكمال الطريق، تذكرني بالحرص على المعاينة؛ أنا القادم من أخلاط التربة، من عائلة فلاحية ملعونها من لا يلتصق بالتربة وعاقّها من لم يتمرغ في غشت القائظ بعد إنهاء عملية الدراس الحارة للتخلص من العوالق. يا لنا من حمير جميلة سأتحول الآن إلى غزال يذرع غابة المهجر باطمئنان. لا خوف من عيون الصيادين ومن اليأس المطبق على القلوب. إنها جنتي التي كنت أحلم بها منذ طفولتي قبل أن أصير وأسير نبيا في الكتابة، مبعوثا لنشر دعوتي؛ إنه مكان والوحي الذي أنزلوا بي حالما أتفرد لأحمد الوحدة المسكونة بالفضول.
أمشي.. أمشي.. وأمشي، والشتاء يجمع أدباشه مستعدا للرحيل، حيث سيلقي نبي الطبيعة «السيد الأخضر» بألوانه مبتسما في وجه الكينونة، هامسا في أذني: «اكتب من أنت لتعرف من أنت أيها النبي، لقد عبر أجدادك الأوائل البحار وكرسوا حياتهم للحرف، والحرف أمة والأمم لا تموت». ويتوهج الركض، ويرتع غزالي منذورا للغايات الأسمى من باب المعاينة. ويخطط دون خوف، دون حواجز، دون رعب. فتبسم الكلمات، متوهجة بألوان الحرية والسعادة، نازعة ملابسها، طافشة في ماء الحياة، نشوى بالغريزة حالما ترى ماء الحياة المرذذ، ناقلة ما تحس به بإمعان مندرجة للحاضر الفاصل بين ثقافتين متباينتين، فالشرق شرق والغرب غرب، وهما لا يلتقيان إلا في نقطة جذب رهيفة يمكن أن تضمحل في أي لحظة. ومن حسن حظ النبي؛ أنه يبعث بلسان قومه ولا يحلم إلا بلغة قومه؛ خاصة لغتي الغالية المطواعة التي تتكيف مع المواقف الجديدة، تنغمر في لب الأشياء، وتفتتها كقطع غيار يسهل تركيبها من جديد من خضم اللحظات الموالية الطافية على الأنهار التي تجري بالأحداث التي تستأنف التمدد صوب الحياة.
أمشي.. أمشي.. وأمشي والصيف يكشر عن أنيابه في وجه الربيع الملوم المدحور، فلا يحدث سوى خشخشات الاستكانة والخذلان من الشمس بعدما وعدته بدفء يدوزن أنغام ما تبقى من الأنساغ، وتبعث الكلمات ممعنة النظر مليا في الحرور، فتفسخ جلدها مدبرة المشاطرة الأفضل لتضحى عسلية اللون، تتباهى في المساءات على الكورنيش جيئة وذهابا، نكاية في ماضيها المحفوف بالقداسة، رافعة هاماتها إلى حد البحر، حيث القمر منحنيا يؤنس المرتاب، المماري، المشاء بالنمنمات، فيتحول الغزال إلى أسماك ترنو إلى فقاعاتها، ترنو إلى انسجامها في أسراب تجسد الرقصات المنطوية على الحس الجمعي، فنقتسم اللحظات بالاشتراك مع الآخر مع الذكرى لنقرع نخبينا على الكونتوار، ونحن ننغمر في النتائج؛ نحن كتاب المهجر، لنركز على مشغل المثاقفة عوض المثقف لنفرط في الاعتزاز بأنفسنا وبترابنا من جديد، وندرج عملية الحصاد حالمين بلغتنا لنبني ذلك الوطن المتناغم بالعاطفة والمثقل بالهموم.
يعب صديقي ما تبقى في نخبه بصخب، ويخبط بيده على الكونتوار منتفضا: «لا نعلم هل سنكتب منفانا أم منفى الوطن؟». كان الخريف مذنبا أكثر من اللازم، لعله الوحش الذي يقتات من ظل دمنا في المهجر.